للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الفَضْل فيه عندي، يعني العبدية، وفَهِم عامَّتُهُم أنها العِلْم.

قلتُ: وهي أيضًا فَرْع العبدية، فهي أَرْفَعُ المقامات، وأحَبُّها عند رَبِّك، ولكن الشيطان لما قال له رَبُّه: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: ٧٥] وجعل يُجاري معه، فَلُعِن إلى الأَبد. ثُم إنَّه لم يكن مِن أبنائه مَنْ يَجْتَرِىءُ أنْ يسأل أباه عن أَكْل الشجرةِ غيرَ موسى عليه السلام، فإِنَّه كان في طَبْعِه شِدَّة، فَنُصِب للمناظَرة لذلك، وهذا ليس إساءةً للأَدب، ولكنه من اختلافِ الطبائع. فإن قلت: إنَّ آدمَ عليه الصلاة والسلام تَمَسَّك بالتقدير، ولم يُجوِّزه العلماءُ في محل الاعتذار. وأجيب بأنَّ الممنوع إنما هو ما كان في دار التكليف، وتلك المناظرةُ وقعت بعد الخروج عنه؛ وتقريره عندي أنَّ التقديرَ لم نَعْلَمه إلَّا بعد النَّظر إلى الدلائل، وإِخْبار الشَّرْع. وأما في العِيان والحُسبان، فليست عندنا إلَّا سلسلةُ الأسباب، والمُسبَّبات، فالتشبُّثُ بها هو الذي يليقُ بأساس هذا العالم، وليس من النصفة في شيءٍ، أنه إذا عَرَض له شيءٌ من أَمْرِ دنياه، جعل هَمّه في الأسباب، وإذا جاءه أَمْرٌ مِن دِينه تشبث بالتقدير، واحتال به.

وبالجملة لما لم يكن التقديرُ ظاهِرًا لم يكن التَّمسُّكُ به جائزًا، لأنه خَرْقٌ لهذا العالم المشهود، الذي بُني أَمْرُه على سلسلة الأسباب، وفِرَارًا إلى عالم التقدير، وأَنَّى هم في هذه النشأة؟ وبعبارة أخرى: لا نُنْكِرُ كَوْنَ المؤثِّر بالذات هو التقدير، ولا نقول: إنَّ الأسبابَ هي المُؤثِّرة حقيقةً، بل نقول: إنَّ تأثيرَها في المُسبَّبات أيضًا مُقَدَّر، لكنَّ التقديرَ لما حُجِب عنا، لم يَبْق في السطح إلَّا الأَسبابُ وتأثيرُها وخَفِي التقديرُ وتأثيرُه، فآل الأَمْر إلى مباشرةِ الأَسْباب، وبها ارتبطت المُسبَّبات، فَنَقَض تلك السلسلةَ الظاهِرَةَ. والأَخْذ بالسِّلْسلة الباطِنة، مع كونِه في عالمِ الأَسْباب ليس إلَّا جَدَلٌ، ألا ترى أَنه لا لُزومَ عَقْلًا عندهم إلا في لوازم الماهية، وتلك انتزاعيةٌ، أما لوازِمُ الوجودِ، فلم يَقُم دليلٌ على عدم إمكان انْفِكاكها بعد، فآل أَمْرُها أيضًا إلى التقدير. فإِذا باشَرْت الأسبابَ في الأمور كُلِّها، لِفُقدان التلازم بينها وبين مُسبَّباتِها، فما منعك أَنْ تُباشِرَها لِعُقْباك، إذ باشرتها لأُولاك؟!.

نعم إذا خَرَجت من عالَم الأسبابِ إلى عالَم يَظْهَر فيه التقديرُ، وتتعطل الأسبابُ، فَلَك أَنْ تَتمَسَّك به، كما فَعَل آدمُ عليه السلام.

هذا تقرير ما قالوا، وأجودُ الأجوبةِ ما ذكره الحافظ ابنُ تَيْميةَ أنَّ التمسُّك بالتقدير على نحوين: الأول: للاجتِرَاء على المعاصي، ودَفْع المَعَرَّة عن نَفْسه، ولا رَيْبَ أنه قبيحٌ جِدًا، كيف وأنه اقترفَ الذُّنوبَ، ثُم لم يستحي مِن رَبِّه عز وجل، وذلك لا يجوزُ قَطْعًا، والثاني: ما يكون لتسليةِ النَّفْسِ، والاعتذار عما صَدَر منه، فهذا مُسْتَحْسن، فَمَن أسرف على نَفْسه، وفرط منه ما فَرَطَ، فاضطرَبت نَفْسه، فجعل يُسلِّي هُمُومَه، ويسر

<<  <  ج: ص:  >  >>