للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

خبره أنه كان بين زيدٍ، وزينب منافرة، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُحِب أن يُمْسِكها وينصحه بذلك، وينهاه عن فِراقها، وكان يُضْمِر في نفسه أنه إن أسمعه ما يكره، فإِنه يتزوَّجُها بنفسه، وذلك لأنَّ زيدًا كان مطعونًا في نَسَبه، وكانت زينبُ فيهم ذاتَ نَسَب، وإنما رضيت بالتزوُّجِ منه لِوَجْه النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فقط، فلما أزمع زيدٌ على أن يطلِّقها، تحدَّثت نَفْسه أن يُكْرِمها بتزوُّجها جَبْرًا لهذا الإِيحاش والهوان. وكان في تزوُّج النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إياها تلافيًا لما صدر منه على أتم وجه. غير أن تزوُّجَ امرأةِ المُتَبَنَّى كان عندهم شَيْنًا، فأراد الله سبحانه أن لا يبقى في أزواج أدعيائهم حَرَج، فأنكحه إياها بعد طلاقِها، وليس فيه شيء يخالِفُ شَأنه وقُدْسه.

ونظيرُه أنه تلا آيَة التخيير على عائشةَ، وكان يحب في نَفْسه أن لا تختار إلَّا نَفْسه المباركة والدار الآخرة، ولا تَرْكن إلى الدنيا، فتلا آيةَ التخيير في الظاهر، وأضمر أن تُؤثر نَفْسه والدار الآخِرة، فكذلك ههنا، كان يصرُّ عليه أن يُمْسِكها مع التطلُّع إلى سبيلٍ يَسْكُن به خاطِرْها إنْ جفا عليها وفارقِها. وهذا الذي قاله تبارك وتعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ} فأيّ شيء أبداه بعده غير أمْر النكاح. فهذه هي القِصَّة، ثُم زيدت عليها مئة كذبة، فجاءت كما ترى تَقْشَعِر منها الجلود. وراجع «الكمالين (١) - الحاشية للجلالين -».

وقد مر معنا أن في أَنْكِحةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم كلّها سرًا من أسرار رَبّانية، كما رأيت في نِكاح زينبَ، فإِنَّه عُلِم منه جوازُ النِّكاح من حليلةِ المُتبنَّى بعد الطلاق، وكان العربُ يتحرَّجون عنه، فلولا ذلك لبقي هذا الحَرَجُ في الدِّين. ولما كان أكثرُ تعليماتِ الأنبياء


= {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} قال القرطبي: قال علماؤنا: قَوْلُ علي بن الحسين أَحْسن ما قيل في الآية، وهو الذي عليه أَهْلُ التحقيقِ من المفسرين، والعلماء الراسخين، كالزُّهري، والقاضي أبو بكر بن العلاء، والقاضي أبو بكر بن العربي، وغيرهم. ذكر هذا كلَّه العلامة عبدُ الرؤوف المُناوي في "شرح الألفية" للعراقي "الكمالين على حاشية الجلالين" من سورة الأحزاب.
(١) قلتُ: وقد يخطر بالبال أنَّ الله سبحانه إنما زَوَّجها في السماء، وتكفل بنكاحها لأمْرين: الأول: لما فيه من تلافٍ لجفاء زيد عليها، مع أنها قد كانت رضيت بالنكاحِ لأمْر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما آثَرَت هي رضاءه على رضائها، كافأها اللهُ بما كان أحْسنَ لها من الدنيا وما فيها، كما استرجعت أُمُّ سَلَمة بعد وفاةِ زوجها، فعوضها اللهُ بما لم تكن نَفْسُها توسوس إليها أبدًا، وهو التزوج بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: أنَّ فيه غايةَ إكرامِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإِنه لما كانت نَفسُه تشمئزُّ منه نظرًا إلى عادةِ العرب، وقد كانوا يبتغون له مطعنًا يطعنون به، ليصدوا الناسَ عن ذِكْر اللهِ، فالله سبحانه زَوَّجه إياها، وتولى بنفسه لئلا يتجشم هو لمباشرة العقد، ويظهر أنه لم يتقدم إليه، ولكنَّ مولاه وربّه زَوَّجه، فرضي به. وهذا كما ترى بين الناس، أن الأب إذا رأى في أَمْرِ مصلحةً لابنه يمضي فيه، ويباشره بنفسه، ولا يترقب إلى مباشرة الابن بنفسه، ولا يجبره عليه أيضًا، فإِنه يكون أعلمَ بعاقبته، والله سبحانه أعظم، وأوفر شفقة، وأكثر حقًا، فهو أحق به، بل لا حق إلا لله سبحانه جل وعز، والله تعالى أعلم بالصواب.

<<  <  ج: ص:  >  >>