للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وردت بالوجهين، ألا ترى أنه لما خاطب النساء أخبرهن أن لأوليائهن حقًا عليهن، حتى خيف منها أن لا يبقى لهن حَقٌّ في أنفسهن، وهذا في نحو قوله: «أيما امرأةٍ نكحت بغير إذْن وَلِيها، فنكاحُها باطلٌ باطِلٌ باطِلٌ». فليس في تكرار «باطل باطل» غير المبالغة، وتأكد مطلوبية الإذْن، والغرض مخرج على ما قلنا بعينه. فاعرف مدارِكَ الكلام، أبصرك اللهُ، وزادك بصرًا وبصيرة؛ ولما تَوجَّه إلى الأولياء قال لهم: «إنَّ الأَيِّم أحقُّ بنفسها مِن وَليها، كأن الأولياءَ ليس لهم دَخْل في البين، وإنما سلك الحديثُ في هذه المواضع مسلك الإِجمال، لما عَلِمت أن هذا هو الأنفعُ في الناس، وأَدْعى لهم إلى العمل.

ولعلك عَلِمت الأن أن مرادَ الشارع في المجموع، وإنما أُدِّي في كلَ من الحديثين شطر شطر، فمن تَمسّك بواحدٍ منهما فكأنه لم يأخذ إلَّا بشطرِ المراد، وهذا الذي يلوحُ من كلام الطرفين. فإِنَّ الشافعية جعلوا حديثَ: «لا نِكاح إلا لوليّ» حجةً لهم، وأَوّلوا في حديث: «الأَيِّم أحقُّ» ... الخ، كأنه يخالفهم. وكذا يَظهَر من كلام الحنفيةِ أنَّ حديث: «الأَيِّم أَحقُّ» ... إلخ، حُجةٌ لهم، وحديث: «لا نِكاح إلَّا بوليّ يخالِفُهم»، فهم يطلبون عنه مَخْلصًا، والأَمْر على ما قَرّرت: أنَّ مراد الشَّارع في المجموع، وإنَّما فصل في مراده، وألقى على كلَ من الفريقين قطعةً قطعة لإِقامة النَّظم، ولا سبيل إليه إلاّ أن يُرْشد الأولياءَ لِطلب رِضاهنّ، وتؤمر النِّساء بشركة الأولياء، فلا يفتتن النِّساء على الأولياء، ولا يضيّق الرجال على النساء. وليس الأَمْر أنهما حديثانِ متعارِضان، لِتطلب له صورةُ التوفيق.

وبعبارة أخرى إنَّ حديث: «لا نِكاح إلَّا بولي»، لم يرد فيما تعارَضَ فيه الرضاءانِ، وإنَّما هو في بيانِ منشأ الشَّارع: وهو أنَّ المُولية مأمورةٌ بتحصيل رِضاه، كما أنه مأمورٌ بتحصيلِ رضاها، فإِذا توافق الرضاءان تحقق منشؤه. أما إذا تعارَضا، فهل يقدّم رضاها على رضاه أو بالعكس؟ ففيه قوله: «الأَيِّم أحقُّ بِنَفسها مِن وليها، والنظر المعنويُّ يؤيدُه، فإِنها إذا نكحت من كفئها بمهر مِثْلها، ثُم لم يرض الولي، عُلِم أنه مُتعنِّت، فأيّ عبرةٍ به، وحينئذ يظهر حَقُّها الذي هو حَقّها، وفيه حديث: «الأيِّم أحقُّ» ... إلخ. واهتديت إلى هذا الجواب من لفظِ محمد رحمه الله تعالى، وإذ ثبت أن الحديثَ لا يدلُّ إلاّ على إذْن الولي، ظهر أن تمسّكهم به على المسألةِ الثانية تطاوُل.

ثُم هل اشتراطُ الإِذْن لكونه حقًّا للوليّ أَم نظرًا إلى المُولية؟ فالنظرُ فيه دائرٌ: فذهب الجمهورُ إلى أنه لكونه حَقّه؛ وذهب أبو حنيفة أنه نظرًا للمولية، لنقصان عقلهن وسوء فِكْرهن، فكثيرًا ما لا يهتدين إِلى المصلحةِ، ولعدم حمايةِ الحسب منهنَّ غالبًا، فربما رَغِبن في غير الكُفء، وفي ذلك عارٌ على قومها، فاشترط الإِذنَ لِتنْسدَّ المفسدةُ. فإِن

<<  <  ج: ص:  >  >>