للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وله حديثٌ قويٌّ عند النَّسائي، والرأي فيه عندي أنَّ المَهْر، وكذا نِصار السَّرقة كانا قَليلين في أَوَّل الإسلام، لعسر حال المسلمين، فلما وَسَّع الله تعالى عليهم زِيد في المهر ونِصاب السرقة أيضًا، حتى استقرَّ الأَمْر على عشرةِ دراهمَ فيهما، فلا نَسْخ عندي. وحينئذٍ جاز أن يكون نَحْوُ خاتم حديد تمامَ المَهْر في زمن، ولك أن تحمله على المُعَجّل أيضًا. فالصُّورُ كلُّها معمولةٌ بها عندي، وإن انتهى الأَمْر إلى العشرةِ (١).


(١) قلتُ: وفي المقام مباحثُ نفيسةٌ ذكرها القاضي أبو بكر بنُ العربي في "شرح الترمذي" أهديها إليك لتنتفع بها، ثُم لتنفع الناس، فإِنّ خيرَ الناسِ مَنْ ينفع الناس:
قال ابنُ العربي رحمه الله تعالى: وقد اختلف الناسُ في ذلك على سَبعة أقوال: الأَوّل: لا مَهْر أَقل من أربعينَ، قاله النخعي؛ الثاني: لا مَهْر أقل من دينار. قاله أبو حنيفة؛ الثالث: لا مَهر أقل من خمسةِ دراهم، قاله ابن شُبرمة؛ الرابع: لا مَهْر أقلُّ من رُبع دينار، قاله مالك؛ وقال الدَّاودي: تَعَرَّقْتُ أبا عبد الله، أي قلت بمذهبِ أهل العراق.
وقال الأَوْزاعي، وابن وَهب: درهم، وهو الخامس؛ السادس: قِيراط، قاله ربيعة. وقال الشافعيُّ وجماعةُ أهل المدينة: وما تراضى عليه الأهَلون، وهو كل ما جاز أن يكون ثَمنًا، أو أُجرة، حتى الموزون، ورُوي مِثله عن ابن عباس. وقد روى مالك حديث الموهوبة، وأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للذي سأله أن يزوِّجها منه: التمس ولو خاتمًا مِن حديد، ودرهمًا من حديد، أو قَدْرها بما يكون خَاتمًا لا يساوي رُبع دينار. إما لا جوابَ عنه لأحد، ولا عُذْر فيه، وإما أنَّ المحقِّقين من علمائنا نظروا إلى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: ٢٥] فمنع اللهُ القادِرَ على الطَّولِ من نكاح الأمة. ولو كان الطَّول درْهمًا ما تَعذَّر على أحَد، وكذلك ثلاثة دَراهمَ، لا تتعذَّر على أَحد. على أنَّ الناس اختلفوا في الطَّول، فمنهم مَن قال: هو القدرةُ على نِكاح الحُرّة، ومَنْ قال: الطَّول هو وجودُ الحُرّة تحته، ويحتمل أن يُراد حقوق الحرة من الإِنفاق والكِسوة، فلا يدخلُ محتمل آيةٍ على نصّ حديث ذَكَره الأئمةُ في الصِّحاح. وقد ذكر أبو عيسى بعد ذكر قليل الصَّداق حديث عُمرَ: أَلا لا تغالوا في صدقاتِ النِّساء، فإنها لو كانت مَكرمةٌ عند الله، لكان أَوْلى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما عَلِمت أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَصْدَقَ لِعدّة من نسائه أكثَرَ من ثماني عشرةَ أوقيةً. وزاد أبو عيسى: ولا امرأة. زاد النَّسائي: وأنّ رَجُلًا ليغلي بصداق امرأته، حتى لا يكون لها حرارةٌ في نفسه، وحتى يقول لك: عَلّق القرفة. وذُكر عن عائشةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أعظمُ النِّساء بركةً أَيسرُهنَّ مَؤونةً". وروى مسلمٌ: أنْ رَجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني تَزوجت امرأةً من الأَنْصار، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: هل نظرت إليها، فإنَّ في أعين الأنصار شيئًا؟ قال: قد نظرت إليها. قال: على كم تَزوَّجتها؟ قال: على أربعةِ أواقٍ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَرْبع أواق، فكأن تَنحِتون الفِضَّة من عرض هذا الجبل، ما عندنا نعطيك، ولكن عسى أن نَبْعثك في بَعْث تصيبُ منه ذلك، فبعث ذلك الرجل فيهم. وفي "أحكام القرآن" تمامُ بيانه.
فأما معنى الحديث الذي ذكره، ففيه عُشرون تكملة: الأولى: أنَّ المرأة وهبت نفسها بغيرِ صَدَاق، وذلك لا يكون إلَّا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. واختلف الناس في وَجْه ذلك، فمنهم مَن قال: إنها أعطته نَفسها بغير صَدَاق، وذلك لا يكون إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خَاصّة، ومنهم مَن قال: إن هو إلا أنها عقدت نِكاحها منه، على معنى النِّكاح بِلَفظ الهِبة. وقال ابنُ المسيب: لو أعطاها سوطًا لحلَّت له.
وقال وكيعٌ: لو رضيت بسوط كان مَهرَها. والصحيح أنها أرادت هِبةَ النفس بغير عِوض، لاعتقادها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم، وأنه يختصُّ في النكاح بأشياء كثيرة لا تجوز لغيره، وهذا منها، فقد تَزوَج صفيةَ بغير صَداق.
الثاني: أنَّ النِّكاح بلفظ الهِبة جائز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في آخره: مَلَّكتكَها، وزوجتُكها، وأَنكَحْتُكَها، وهذا كله في الصحيح، ويقتضي أنه ليس للنِّكاح لفظ مخصوص، فإِنه بعبارة - كما قال بعض أصحاب الشافعي - وإنما هو عَقْد =

<<  <  ج: ص:  >  >>