للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

...........................


= تراضٍ، فما فُهِم منه الرضى جاز. وأما أبو حنيفة فجعله بكلِّ لَفظٍ ويقتضي التمليكَ على التأبيد، وهذا تعلق باللفظ، وليس له عندنا معنًى بحال، بل لو قال: وحللت لك، أو أَبَحْت لك، لجاز. وذكر بعضُ أصحابنا: لمالك أن النِّكاح بِلَفْظ الهِبة لا يجوز، وليس الأَمْر كما زعم، إنما قال: عند مالك لا تكونُ الهِبةُ لأَحدٍ بعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، يعني الموهوبة، لقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: ٥٠] أما إنه قد روى عن المغيرةَ، ومحمد بن دينار مِثْل مَذهب الشافعي. وتحقيقُ القول فيه: إنه إذا قال له: وَهَبتك، إن أراد نكحتك، وقابله الآخر، كذلك جاز. وإنْ قصد الآخَرُ صَداقًا، فكأنه شَرَط حَطَّ الصَّداق، وذلك بمنزلته لو صرح، فقال: بلا صَداق، وفيه قولان: أحدهما: يَفسخ بكلِّ حال؛ الثاني. أنه يفسخ قَبل الدُّخول خاصَّة. وقال عامْةُ العلماء: الشَّرْط لا يَضُرُّ بالعَقْد، والنكاح صحيح. وقد بَيناه في مسائل الخلاف.
الثالث: أنَّ فيه خِطبة المرأةِ لنفسها، إذا كان المخطوبُ مِمن يرْغب في صلاحه، وقد قالت بِنْتُ أنس لأنس، حين سمعته يُحدْث بهذا الحديث: "واسوأتاه". قال: هي خيرٌ منك، رَغِبت في النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَضت نَفْسُها عليه.
الرابع: حديث يَعْقُوب بن عبدِ الرحمن عن أبي حازم هذا، أنها قالت: جئت لأهب نفسي لك، فصعد النظر فيها وصَوبه. ويحتمل أنها كَلَّمته قَبْل الحجاب مُتلففةً، وأن ذلك كان جائزًا، فإنه يدخلُ في باب نظر الرجل إلى المرأة التي يريد أن يتزوجها. فإِنك إنْ لم ترد نِكاح المرأةِ، لم يَجُز لك النَّظر إليها بارزةَ الوَجْه، ولا متلففة، فترى منها القامة، والهبة خاصّة.
الخامس: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، الخاتم من الحديد الذي يتزين به، قيمتُه أكبرُ من وزنه، وقد قَرَّرْنا في تلخيص الملخص فوائد أربعة في تقرير مالك له، وقلنا: إنَّ الأعيان المالية، والمنافع المبتذلةَ يجوزُ استيفاؤها بغير عِوض، فجاز أن يُستباح بكل عِوض، والبُضْع لا يُباح إلَّا بِعِوض بيانًا لخطره، فيقدر بيانًا لخطره. وذكرنا مَأخَذًا ثانيًا، وهو أن الصَّداق حَقُّ الله، فوجب تقديرُه. وهذه الأصولُ لا تَرد بألفاظٍ من الأحاديث محتملة، يعارضها مِثلُها من القرآن، كما بيناه، والله أعلم.
السادس: قوله: "إن أعطيتها إزارَك، جلست لا إزار لك"، دليلٌ على مِلك المرأة الصَّداق بنفس العقد، ولا خلاف فيه لاتفاق الأُمة على جواز التصرّف فيه، وترتب على هذا فروعٌ من مسائل الفقه، سيأتي بيانها.
السابع: أنَّ ما لا يمكن تسلِيمُه لا يكون صَداقًا، لأنه لو سَلَّمه لم كشِف.
الثامن: إنَّ فيه وجوبَ تعجيل المَهْر، أو شيء منه، لأنه لو لم يوجب ذلك، لازمه إياه، وأرجاه عليه.
التاسع: ذِكره لخاتم الحديد كان قَبل النهي عنه، وقوله: "إنّه حِلية أَهْل النار"، فنسخ النهي جوازه له، والأحاديث في ذلك صحاح وإن لم تكن في الصحيح، ويعضده إجماعُ الأُمة على تركه عملًا.
العاشر: إنَّ هذا يحتمل أن يكون زمانَ جوازِ الاستمتاع بالنساء، كما قال جابر: كُنا نستمتع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقبضة من الطعام، ثم نَسخ اللهُ المتعة، وصَداقها.
الحادي عشر: أنَّ مِن العلماء من قال: إنما جوازُها بِفَضل حِفْظ القرآن، أو سُورٍ منه، كما رُوي عن أُم سُلَيم: أنه خَطَبها أبو طلحة، فقالت: والله يا أبا طلحةَ ما مِثْلك يُردّ، ولكنك رجلٌ كافر، وأنا امرأةٌ مُسْلمة، ولا يَحِل لي أن أتزوَّجك فإِن تُسلم فذلك مَهري، ولا أسألك غيرَه، فأسلم، فكان ذلك مَهْرَها. قال ثابت: فما سَمِعنا بامرأةٍ قَطّ كانت أكرمَ مهرًا من أُمِّ سُليَم، فدخل بها، فولدت له.
الثاني عشر: ومن العلماء مَن قال: إنما زَوّجها على أن يُعلّمها سورًا من القرآن. وفي حديث أبي داود: "فقم فعلِّمها عشرين آيةً"، فكأنها كانت إجازة، وكرهه مالك، ولم يجزه أبو حنيفة، ومنعه ابنُ القاسم، وقال: يفسخ قبل البناء، ويثبت بعده. ودار كلامُ أصبغ على أنه إنْ نزل مَضى. قاله مالك، وأَشْهب، وابن المواز. ولو كان جُعْلًا، =

<<  <  ج: ص:  >  >>