للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

للخلق. وما ذكروه من الإِحاطة داخلٌ في الخلق، فلا يَظْهَرُ في العطفِ لطفٌ، مع أنه قال: «خلقكم»، «وصوَّركم» ... إلخ. فجاء بالعطف تنبيهًا على تغايُرِهما.

فاللَّهُ سبحانه يتجلَّى في هذه النعوت التي نَعَتَ بها نفسه في الدنيا والآخرة، فإنَّ الحِلْيَةَ المرضيةَ له هي التي نَعَتَ بها نفسَه بِنفسِه، ففيها تكونُ الرؤيةُ، وهي التي تسمَّى برؤية الرَّبِّ جلَّ مجده. أَلَا ترى أنك إذا رأيتَ ربَّك في المنام، تيقَّنتَ أنَّكَ رأيتَ الرَّبَّ عزَّ برهانه، مع علمكَ أنه ليس ربَّك، وهذا لأنَّكَ تنفي كونَ تلك الصورة ربًّا، مع إذعانكَ بكون المجلَّى فيها ربَّك عزَّ سلطانه. فكأنَّكَ في بيانك هذا تنفي المثلَ له، وتريدُ المَرْمَى. وإذ قد ورد في الحديث: «أنَّ المؤمنين يَرَوْنَ ربهم في المحشر في صورة يعرفون بها»، فما الدليلُ على أنه ليست برؤيته؟ بل هو رؤيةٌ محقَّقةٌ فوق رؤيتك إيَّاه في المنام، ثم أَزْيَد، وأَزْيَد.

وبالجملة (١) لا يُمْكِنُ الوصولُ للعبد إلى جَنَابه تعالى إلَّا بوساطة تلك الصورة، فإنَّ اللَّهَ تعالى غنيٌ عن العالمين.

وتحقيقُه: أن صورةَ الشيء ما تُعْرَفُ بها شخصيةُ الشيء، ولا ريبَ أن الأدخلَ فيه هو الوجه، ولذا أظنُّ أن غالبَ استعمال الصورة في الوجه، لأنَّه هو مبدأ التمييز والمعرفة كثيرًا. ولذا قَلَّما يُسْتَعْمَلُ لفظُ الصورة في الجمادات والنباتات خاصةً، وذلك لأنَّها ممَّا يُسْتَغْنَى عن معرفة أشخاصها. وإنَّما نحتاجُ إلى معرفة الشخصية في الحيوانات، أمَّا النباتاتُ والجماداتُ فليس لنا بشخصياتها عرضٌ. ثم لمَّا كان الأقدمُ في المعرفة هو الإِنسانُ، كان أقدمَ في إطلاق الصورة عليه أيضًا، ثم الحيوانات، ثم الأشجار. أمَّا السماءُ والأرضُ، فهي مبسوطةٌ كالمادة، لا يَسْأَلُ عن صورها أحدٌ.

ولما كان اللهُ سبحانه غايةَ الغايات، ومنتهى المطالب، ومقصودَ العوالم كافةً، وكان في أقصى مراتب التجرُّد والتنزُّه، احتاج الناسُ لمعرفته إلى صورةٍ يَعْرِفُون بها ربَّهم، لأن الماديَّ المظلمَ المتدنسَ بأنواع الظلمات. لا يَبْلُغُ شَأْوَ المجرَّد، وإن تجرَّد، وإن تجرَّد. فلا يَحْصُلُ له نسبة الرائي، والمرئي بينه وبين الله تعالى إلَّا بقَدْرِ ما يتمكَّن


(١) واعلم أن الشيخَ الألُوسيّ قد تكلَّم في تحقيق الرؤيا، وبَسَطَه جدًا، فراجعه من تفسيره: ص ٢٤٢ إلى: ص ٢٤٤ - ج ٣، ثم ذكر عن حُجَّة الإِسلام الغزالي في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: "من رآني في المنام ... ". إلخ: أنه ليس المرادُ بقوله عليه الصلاة والسلام: "فقد رآني". رؤيةَ الجسم، بل رؤيةَ المِثَال الذي صار آلةً يتأدَّى بها المعنى الذي في نفسه إليه. ثم ذكر أن النفسَ غير المِثَال المتخيَّل، فالشكلُ المرئي ليس روحَه صلى الله عليه وسلم، ولا شخصَه، بل مِثَالَه على التحقيق. وكذا رؤيتُه سبحانه نومًا، فإنَّ ذاتَه تعالى منزهةٌ عن الشكل والصورة، لكن تنتهي تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثالٍ محسوسٍ، من نورٍ، أو غيرِه، وهو آلةٌ حقًّا في قوله، واسطةً في التعريف. فقولُ الرائي: رأيتُ اللهَ نومًا، لا يعني به أنه رأى ذاتَه تعالى اهـ: ص ٢٤٤ - ج ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>