للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثم أَحْسَبُ أن التجلِّي لا يكون إلَّا فيما أطلقه على نفسه من النور، والوجه، وغيرِهما. وما لم يَرِدْ النصُّ بإِطلاقه عليه تعالى، فلعلَّه لا يكونُ فيه التجلِّي أيضًا. وقد تجلَّى ربُّنا تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام مرتين: مرَّةً في الجَذْوَةِ في شجرةٍ حين ذهابه إلى بني إسرائيل، ومرةً أخرى حين رَجَعَ عنهم، وذلك حين سأل ربَّه أن يتجلَّى له، فيراه بعينيه هاتين، فَنُودِي {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: ١٤٣]:

*تَجَلَّى، ولم يُكْشَفْ كسُبحاتِ وجهه ... كمثل تجلِّي النور في جبل (١) الطور

*وكان حجابُ النور نورًا، وظلمةً ... ومن بين غيبٍ، والشهادةُ أَوْرَى

*فيذهب ما قد كان عنوانٌ بينه، ... ويبقى به مرآه في حكمٍ مستورٍ


= في المحشر، فَيَعْرِفُونَه مرةً، ويُنْكِرُونَه أخرى -والأصلُ في الإِطلاق الحقيقةُ، ولا ضرورةَ تدعو إلى العدول عنها، فإنَّه سبحانه، وإن ظهر في أيِّ صورةٍ شاء، فهو تعالى منزَّهٌ عن كل صورةٍ، في كلِّ حالٍ، من حيث ذاتُه. فالظاهرُ في الصورة هو الرَّبُّ حقيقةٌ شرعيةً بلا إشكالٍ. ومما يَنُصُّ على ذلك حديث أبي موسى السابق الذي فيه: "فَيَنْصَرِفُ اللهُ عنهم، وهو اللهُ تبارك وتعالى يأتيهم ... ". والحديثَ.
ومن ههنا يتَّضِحُ ما ذكره بعضُ المحققين في حديث حُذَيْفَة الذي رواه الطبرانيُّ السابق آنفًا. وقد استنكر بعضُ العلماء هذا الحديث، وما كان ينبغي له الاستنكارُ، وذلك لأنَّ للحقّ تبارك وتعالى تجلِّيًا في خِزَانة الخيال، في صورةٍ طبيعيةٍ، بصفاتٍ طبيعيةٍ، فيرى النائمُ في نومه تجسُّد المعاني في صورة المحسوسات، هذه حقيقةُ الخيال.
فتجسُّدُ ما ليس من شأنه أن يكونَ جسدًا، لا تُعْطِي حضرتَه إلَّا ذلك. فحضرةُ الخيال أوسع الحضرات، إذ فيها يَظْهَرُ وجودُ المُحَال، فإنَّ اللهَ سبحانه لا يَقْبَلُ الصورةَ، وقد ظَهَرَ بالصورةِ في هذه الحضرة. انتهى.
ومعنى قوله: إن اللهَ لا يَقْبَلُ الصورةَ، أنَّه لا يتقيَّدُ بالصورة، وإن ظَهَر فيها.
والحاصل: إذا كان الحقُّ له أن يَظهَرَ في أيِّ مظهرٍ شاء، على أيِّ هيئةٍ شاء، مع كونه منزَّهًا عن كلِّ صورةٍ في كلِّ حالٍ، لم يَبقَ إشكالٌ في تجلِّيه في أحسن صوره للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي صورة الشابِّ المذكورِ في عالم الخيال، ولا في تجلِّيه لأهل الموقف في المظاهر المختلفةِ:
إمَّا في عالم المِثَال، كما يَدُلُّ عليه حديثُ ابن مسعودٍ السابق الذي عند ابن أبي شَيْبَةَ، والطبرانيِّ، والحاكم، وغيرهم: "ثم يتمثَّلُ الله للخلق، فَيَلْقَاهُم ... " الحديث. وحديث ابن مسعودٍ أيضًا، عند الدارقطنيِّ، والطبرانيُ، والحاكم، وغيرهم: "ويبقى أهلُ الإسلام جُثُومًا، فيتمثَّلُ لهم الربُّ تعالى، فيأتيهم، فيقول ... " الحديثَ.
أو فيما هو أعمُّ من ذلك، كما يَدُلُّ عليه حديثُ أبي هريرة الذي عند ابن جرير، والطبرانيِّ، والبيهقيِّ، وغيرهم، السابق: "فإذا لم يَبقَ إلَّا المؤمنون، وفيهم المنافقون، جاءهم اللهُ فيما شاء من هيئة ... " الحديثَ. وحديث أبي سعيدٍ عند الشيخين: "ثم يتبدَّى الله لنا في صورةٍ غير صورته التي كنَّا رأيناه فيها أوَّل". وحديث أبي موسى الأشعريِّ عند الطبرانيِّ: "فيتجلَّى لهم تبارك وتعالى". وحديثُ أبي هريرة: "ويتجلَّى لهم من عظمته ما يَعْرِفُون أنَّه ربُّهم"، إلى غير ذلك.
وإذا تحققت أنَّ لله تعالى أن يجيءَ، ويتجلَّى في أيِّ هيئةٍ شاء، مع أن ليس كمثله شيءٌ. فإذًا الذي جاءنا بأنَّ اللهَ تعالى ليس كمثله شيءٌ، هو الذي جاءنا بالمتشابهات، التي منها هذه الأحاديثُ، وما في معناها. وحيث إنَّ الأصلَ في الإِطلاق الحقيقةُ، ولا يُعْدَلُ عنها إلَّا بضرورةٍ، وفد تبيَّن بما قرَّرناه أنَّه لا ضرورةَ تدعو إلى العدول عنها، لم يَبقَ عندك إشكالٌ في شيءٍ من المتشابهات الواردة في الكتاب والسنة على كثرتها أصلًا، بإِذن الله تعالى.
(١) في نسخة: شجر الطور.

<<  <  ج: ص:  >  >>