للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تعالى مُحَالٌ، ولكنَّه جيء به على شأن خاطر عباده، لِيَعْلَمُوا ما قدْرِهم عند ربِّهم. وليس له لفظٌ لمثل هذا الموضع في عالمهم إلَّا هو، فحادثهم بحسب مجاري عُرْفِهم. هذا بحسب الجليِّ من النظر، وعند تدقيق النظر يَظْهَرُ أنَّ التفاتَه تعالى إلى أمرين متعارضين هو الذي عَنَى بالتردُّد، وعَبَّر عنه. فإنَّ اللَّهَ تعالى يتوجَّه أوَّلًا إلى توفِّي العبد، ثم إلى مَلَالة العبد من موته، ولا بدَّ له منه في الدنيا، فكأنَّه مادةُ التردُّد للعبد. فإنَّ العبدَ إذا تردَّدَ فيما تتعارضُ فيه الجهات، فلا يَسْنَحُ له الترجيح، فيحدث له فيه التردُّد لا مَحَالَةَ. واللَّهُ سبحانه بريءٌ عن التردُّد، ولكنَّه عبَّر عنه في اللفظ، لكونه مادتَه عندهم.

وبعبارةٍ أخرى: إنص العبدَ يكره موتَه، ومَلَكُ الموت يجيء لتوفَّاه، فحدث صورة التصادم والتقابل، وتلك الصورة سُمِّيت بالتردُّد، وإلَّا فلا تردُّد في جَنَابِه تعالى، فإنَّه فعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ، وحاكمٌ لِمَا يريدُ ثم إنَّ تلك الصورة أيضًا في المواطن التحتانية، وأمَّا في الفوق، فلا شيءَ منه. وهذا كما في الحديث: «إن البلأَ يَنْزِلُ من السماء، وتَصْعَدُ الصدقةُ إليه، فلا يزالان يَتَصَارَعَان إلى يوم القيامة، حتى لا يَنْزِلَ هذا، ولا يَصْعَدَ هذا»، أو كما قال. فأمعن النظرَ فيه، هل يُوهِمُ في الظاهر أن الصدقةَ تَرُدُّ من القَدَرِ شيئًا.

والوجهُ فيه: أنَّ هذا التصارعَ إنَّما هو في عالم الأسباب، وأمَّا عند ربك فقد جَفَّ القلمُ بما هو كائنٌ، وقد عُلِمَ من قبل أنَّ هذا البلاءَ يُرَدُّ عنه لأجل صدقته. ولمَّا كان ردّه من صدقته، لا بدَّ أن يَظْهَرَ هذا التعليقُ أيضًا في موطنٍ، وهو كما في الحديث. فهكذا لا تردُّد عند ربِّك أصلًا، ولكن لمَّا كانت مادةُ التردُّدَ ممَّا تتجاذبُ فيها الجهاتُ، وهي متحقِّقةٌ فيما نحن فيه، عبَّر عنه بالتردُّد بحسب هذا الموطن، مع أنَّه لا تردُّد عند ربك، فإنَّه لا صباحَ عنده ولا مساءَ، فافهم (٢).


= ولما أراد أن يبيِّن للعباد أن التوبةَ عندهم تقعُ عند الله بأحسن موقع، عبَّر عنه بالفرح الذي عرفوه من أنفسهم في أَسْنَى الأشياء، وأحبَّها إليهم، ليهتدوا إلى المعنى المراد منه، ذوقًا وحالًا، وذلك بعد أن عرَّفهم أنَّ إطلاقَ تلك الألفاظ في صفات الله سبحانه على ما يتعارفونه في نعوتِهم غيرُ جائزٍ.
وهذا بابٌ يُعرَفُ به كثيرٌ من وجوه المتشابهات. ولا يَجُوزُ لأحدٍ أن يَتَعَاطَى هذا النوعَ في كلامه، ويتَّسِعَ فيه إلَّا للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه يجُوزُ له ما لا يَجُوزُ لغيره، لبراءة نطقه عن الهَذي، ولأنَّه لا يُقْدِمُ على ذلك إلَّا بإذنٍ من الله، وهذه رتبةٌ لا تنبغي إلَّا له - صلى الله عليه وسلم - اهـ.
قلتُ: وهذا أحدُ الوجهين للشيخ في تأويل المتشابهات. ولَعَمرِي إنَّه لَوَجهٌ يَكشِفُ عن وجوهِ كثيرٍ من المتشابهات، وتَطْمَئِنُّ به القلوبُ، وتَنشَطُ به الآذانُ، والأذهانُ. والوجهُ الآخرُ له: أنها محمولةٌ على التجلّي. وهذا الوجهُ، وإن كان أحكمَ، لكنَّه لدقته وغموضِه لا يَفْهَمه كثيرٌ من الناس. أمَّا أنا العبدُ الذليلُ الحقيرُ الذي قد اغترف من بعض فُضَالَتِهِ، أُدْرِكُ بعضه إن شاء الله تعالى، وعَرَفْتُ أن ثاني الوجهين هو الأقربُ، وإنَّما ذكرته تحديثًا بنعمة ربي، لا غير. وما ذلك إلَّا من فضل ربي، ثم من بركات ملازمة شيخي، وإلَّا فإني أدري أني أنا أنا، اللهُمَّ إني أعوذ بكَ من شرِّ الشيطان وشركه.

قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الهامش التالي وقع في المطبوع في ص ٢٨٠، فنقلته لموضعه الصحيح هنا
(٢) قلتُ: ومثلُ هذه المباحث قد وقعت في هذا التقرير كثيرًا، فَسَرِّح النظرَ فيها، ولا تَسْأَم من إغلاقها ونُبُوِّها عن الأذهان، فإنها عسيرةُ الحلِّ، ويَضِيقُ في مثلها نطاق البيان، فتزدادُ عُسْرًا إلى عُسْرها. ولستُ بأديبٍ أريبٍ، لأُلْبِسَهَا قوالبَ الألفاظ كما ينبغي، ولكن جهدُ المُقَلِ دموعُها. وإنا أنبِّه عليها، لأنَّ فيها علومًا لا تُدْرَكُ بعد ضرب الأكباد، وقد فَهِمْتُ منها ما شاء ربي أن أَفْهَمَهُ، لكن لا يساعدني القلمُ لأدائها، فعليكَ أن تتفكَّرَ فيها من نفسك. وسَيُحْدِثُ ربي بعد عُسْرٍ يُسْرًا، إن شاء الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>