للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. طرفاه ٥٤٠٤، ٥٤٠٥ - تحفة ٥٩٧٩

دخل في مسألة الوُضُوء ممّا مَسَّت النار، واخْتَار مذهب الجمهور من عدم إيجاب الوُضُوء منه، وهو مذهب الأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، وقد وَرَدَ في الأحاديث الوُضُوء منه أيضًا، فقال بعضهم: إنه منسوخٌ لِمَا عند أبي داود عن جابر رَضِيَ الله عنه: «كان آخر الأَمْرَيْن من رسول الله صلى الله عليه وسلّم تَرْك الوُضُوء ممّا غيَّرت النار». وزَعَمُوه صريحًا في النسخ.

قلت: لم يُرِد به جابر رضي الله عنه بيانَ النَّسخ، إِنَّما أشار إلى ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلّم الوُضُوء، وتَرْكه في يوم واحدٍ، حيث قال: «قَرَّبْتُ للنبي صلى الله عليه وسلّم خبزًا ولحمًا، فأكل، ثم دعا بوَضُوء فتوضَّأ به - فهذا هو الأمر الأول - ثم صلَّى الظُّهر، ثم دعا بفَضْل طعامه فأكل، ثم قام إلى الصَّلاة ولم يتوضَّأ» - وهو الأمر الآخر - فبيَّن جابر رضي الله عنه أنه توضَّأ منه، ولم يتوضَّأ أيضًا، والذي كان منهما آخرًا هو عدم الوضوء، وإليه أشار أبو داود حيث قال بعد نقل حديث جابر الأول: «كان آخر الأمْرَين ... » إلخ، قال أبو داود: هذا اختصار من الحديث الأول، فإِذن لا يريد بيان النسخ، أي أن الوُضُوء منه كان، ثم تُرِك، فكان آخر الأَمْرَين بهذا الطريق، بل أراد من الأَمْرَين الواقعتين كما ذكرهما هو قبله، ولا يَكْفِي للنسخ مجرد كونه آخرًا، لأن ما يكون مُسْتَحَبًّا يَرِد فيه الفعل وتركه لا محالة، فلو كان ترك الوُضُوء آخرًا بهذا الطريق، لَمَا كان فيه دليلًا على النسخ أصلًا.

واختار الشَّاه ولي الله رحمه الله تعالى: أنه مُسْتَحبٌّ، وأزيد عليه شيئًا، فأقول: إنه مُسْتَحَبُّ الخَوَاصِّ دون العَوَامِّ، ومُسْتَحَبُّ الخَوَاصِّ هو ما يكون مُسْتَحَبًّا لأجل المعنى. فالمُسْتَحَبٌّ على نحوين: مُسْتَحَبٌّ لأجل الصورة، وهو الذي وَرَدَ الشرع باستحبابه، وهو الدائر في الفقه، ومُسْتَحَبٌّ لأجل المعنى، وهو ما يكون فيه إيمااءٌ إلى الفائدة فيه، ولم يَردِ الشرع باستحبابه صراحةً، ولمَّا أومأ إلى فوائد فيه، عَلِمنا أَنَّه مطلوبٌ، فقلنا: إنه مُسْتَحَبٌّ لأجل المعنى الموجب للاستحباب، وإن لم يكن من جهة الصورة. وليس هذا النوع من وظيفة الفقهاء، وأَسَمِّيْه مُسْتَحَبَّ خَوَاصِّ الأمة، كالوضوء للجُنُب، فإِنه أشار الشرع إلى معنى فيه، لما في «معجم الطبراني» في جُنُبٍ ينام ويموت: «إن الملائكة لا تَحْضُر جِنَازته». وبالوُضُوء تَنْدَفع هذه المَضَرَّة، فهذا المعنى أوجب القول باستحبابه.

ومن هذا الباب: الوُضُوء من مَسِّ الذَّكَر، ومس المرأة ولحوم الإِبل عندي. فأقول: إن الوضُوءَ مُسْتَحَبٌّ في جميعها، إلاّ أنَّه مُسْتَحَبُّ الخَوَاصِّ، ولا بُعْدَ فيه، فإن فقهاءنا أَوْجَبُوا الوُضُوء بأقلُ من هذه الأشياء، كالنظر إلى الأجنبية والغيبة مثلًا، فلو إلتزمنا الوُضُوء من مَسِّ الذكر والمرأة وغيرها الذي هو أفحش منه، لَمَا كان فيه بأسٌ، ولا خلاف للمذهب.

أمَّا معنى «فيما مَسِّت النار»: فإنَّ الملائكة لهم تُبَاعِد وتُنَافِر عن الأكل والشرب بطباعهم الزكية، ومن أكل أو شرب المطبوخ الذي تَدَنَّسٍ بصنعهم ونَضَّجَتْهُ أيديهم، فكأنه وقع على بُعْدٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>