للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عليها بِبَيِّنَةٍ، فَكَكَمَ بها القاضي، ليس له أَنْ يَطَأَهَا، ولا يَنْفُذُ قضاؤُه باطنًا، لأَنَّها مَشْغُولةٌ بحقِ الغَيْرِ، وقضاؤُه إِنَّما يَنْفُذُ باطنًا إذا صَادَفَ محلًا صالحًا لِنَفَاذِهِ، ولم يُوجَدْ، ولو قُلْنَا به لَزِمَ اجتماعُ الحُكْمَيْنِ المُتَنَاقِضَيْنِ في محلٍ واحدٍ.

ونَعْنِي بِقَوْلِنَا: يَنْفُذُ باطنًا، أَنَّها تَحِلُّ للمُدَّعي إذا كانت فارغةً عن حقِ الغَيْرِ، ولا يكونُ الزَّوْجُ آثِمًا، بِوَطْئِها، ولا هي بَتَمْكِينِهِ، ولا القاضي بقضائه، أَمَّا عَدَمُ تَأْثِيمِ القاضي، فظاهرٌ، فإِنَّه تَابِعٌ للحُجَّةِ، فإِنَّه لا عِلْمَ له بِالبَوَاطِن، وإِذْ لم يَعْلَمِ الوَاقِعَ، فإِنَّه يَحْكُم بالحُجَّةِ لا مَحَالَة، كيفَ كانت، وهو مَعْنَى قولِهِ صلى الله عليه وسلّم «ولعلَّ بعضَكُم أَنْ يكونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ من بعض ... » إلخ، وكذا المرأةُ غيرُ آثمةٍ في التَّمْكِينِ، لأنَّ القاضي إذا حَكَمَ عليها بِحُجَّةٍ شرعيةٍ، لم يَسَع لها النُّشُوز، نعم في الزَّوْجِ بعضُ إشكالٍ، فإِنَّه قد عَلِمَ أَنَّها ليست مَنْكُوحَة، ولا هو مَجْبُورٌ في الاستِمْتَاعِ منها، فكيفَ يَحِل لهُ أَنْ يَطَأَها؟.

قُلْنَا: إِنَّا لم نَحْكُم بِحِلِّ الاستمتاعِ مع قِيَامِ المُحَرَّمِ، كما زَعَمُوهُ، فأَلزَمُوا علينا أَنَّ فِيه توفيرًا للزِّنَا، وتَرْوِيجًا للفَوَاحِش، بل نقولُ: إِنَّها أَحَلَّها القَضاءُ، فَيَسْتَمْتِعُ منها، وهي حلالٌ له، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّكاحَ ليس عِبَارةٌ إلا عَنِ الإِيجابِ والقَبُولِ بِحَضْرَةِ الشَّاهِدَيْنِ، فإِذا تَعَذَّرَ العِلْمُ بالحقيقةِ، فَقَدْ تَوَلَّى به القاضي ونابَ عنهما؛ حتى إِنَّ بَعْضَ الحنفيةِ شَرَطُوا الشَّهَادَةَ عند صُدُورِ هذا القضاء أيضًا، لتكونَ شاكلةَ القضاءِ كشَاكِلَةِ العَقْدِ بِعَيْنِها، وهذا ليس بمُخْتَار، فإن الشهادَةَ إِنَّما تُشْتَرَطُ للعَقْدِ القَصْدي، وهذا عَقْدٌ ضِمْني، وكَمْ مِنْ شيءٍ يَثْبُت ضِمْنًا، ولا يَثْبُتُ قَصْدًا، فالصَّوابُ أَنَّ الشَهَادَةَ لا تُشْتَرَطُ له.

وبالجملة إنَّ الإِشْكَالَ (١) إِنَّما هو على مَنْ قالَ بهْلِّ الاسْتِمْتَاعِ مع عَدَمِ النِّكاح، أَمَّا مَنْ قال: إِنَّ قَضَاءَهُ حَلَّ مَحَلَّ النِّكاحِ، فلا إِيرَادَ عليه أصلًا، نعم يَلْزَمُ الزِّنا على مَذْهبِ الشافعيةِ، فإِنَّه إذا قَضَى عليها بالنِّكَاحِ، ولم يَنْفُذ قَضَاؤُه باطنًا، فحينئذٍ لا يكونُ استمتَاعُه إلا حَرَامًا، وزِنَا، فليَعْدِل أَنَّ توفِيرَ الزِّنَا على أي المَذْهَبَيْنِ أَلزَم، على أَنَّه ماذا يكونُ حُكْمُ الأَوْلادِ عِنْدَهُم؟ فإِنَّها كُلُّها ولدُ زَنْيَة على هذا التقدير؛ وبالجملة يَلْزَمُ عليه مَفَاسد غير عديدة، ولذا تَرَدَّدَ فيه الشيخُ الأكبر أيضًا.

ولعلَّ أصلَ النِّزاعِ في أَنَّ فَصْلَ الأقْضِيَةِ إذا وَقَعَ حسبَ قَواعِدِ الشَّرْعِ، فهل يكونُ ذلك قضاءً على الوَاقِعِ، أَوْ لَا؟ فَمَنِ اخْتَارَ أَنَّهُ فَصْلٌ بِحَسَبِ الوَاقِعِ أيضًا ذَهَبَ إلى نَفَاذِهِ


(١) قال مولانا فَتحُ محمد: إِن القضاءَ بشهادةِ الزُّورِ مُشْكِلٌ، فخلافُه أيضًا مُشْكِلٌ في مسألةِ القَضَاءِ للرَّجُلِ على المرأةِ، لأنَّ القضاءَ إن لم يَنْفُذ باطنًا، فيجبُ على المرأةِ المظلومة إما أَنْ تَعْصي الإِمامَ، أو تَفِرُّ وتَخْتَفي، حيثُ لا يَجِدْهَا أحدٌ، أو تَرْضَى بما لا تَرْضَى به النَّفْسُ، وهو الوطءُ الحَرَامُ، ويلزَمُها أَنْ لا تَأْخُذ منه النفقةَ، ولا المهرَ، ولا الميراثَ، إلى آخر ما قال في حاشية "شرحِ الوقاية".

<<  <  ج: ص:  >  >>