للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثم المسألة عند اختلاف الألفاظ ينبغي أن تُؤْخَذ بعد رعاية جميع الألفاظ، فَمَنْ نظر إلى لفظ النَّضْح والرشّ، فقد قطع نظره عمّا يجب عليه النظر إليه، وإنَّما اختلفت الألفاظ في بيان تطهيره، لأنه لم يكن فيه تأكيد، فاستخفَّ أمره، وعبَّر عنه تارةً بالنضح والرشّ، وأخرى بالصَّبِّ، فهذا مجرد تعبير وطريق بيان، لا مسألة منضبطة، وهكذا إذا يستخفُّ الأمر تَرِد فيه التعبيرات بكل نحو، ومن ههنا يُسْتَفاد الرخصة. ثم في «الدُّرِّ المختار» مسألةٌ سها فيها صاحبه وهي: أنَّ العَصْرَ إنما يُشْتَرط إذا غسل الثوب في الإِجَّانة، وإلاّ كفى له الصَّبُّ ولو لم يَعْصِرْه.

قلت: وهو سهوٌ بيِّن، فإِنَّ هذه المسألة كانت في النجاسة المرئية، فنقلها في غير المرئية أيضًا، كم في «الخلاصة»، والعجب من ابن عابدين حيث لم يتعقَّب عليه.

ثمَّ إن الطَّحَاوِي (١) أجاب من لفظ الرَّشِّ بوجهٍ آخر، وقال: إنما أراد بالنَّضْح صَبَّ الماء عليه، فقد تُسَمِّي العرب ذلك نَضْجًا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلّم «إني لأعرف مدينة يَنْضِحُ البحر بجانبها» فلم يَعْنِ بذلك النَّضْح الرَّش، ولكنه أراد يَلْزَقُ بجانبها. انتهى.

قلت: والنَّضْح في الأصل: إسالة الماء وقتًا فوقتًا، شيئًا فشيئًا، بخلاف الصَّبِّ: فإِنَّه إسالة الماء دفعة، ولذا يُقَال للإِبل الذي يُحْمَل عليه الماء للاستسقاء: النَّاضِح، لأنه يجيء بالماء وقتًا فوقتًا، وإن كان الماء عليه كثيرًا، فالإِنصاف أن النَّضْح في الثوب هو بمعنى الرَّش دون الصَّب وإن لم يكن في البحر، والنَّاضِح كذلك، وهذا لتفاوت مَقَام وَمَقام، فنَضْح البحر وإن كان أَزْيَد من الصَّب والإِسالة، لكن نَضْح الثوب لا يكون كذلك، بل يكون بمعنى الرَّش، لأن نَضْح كل شيء بحَبَسه، فقلة الماء وكَثْرَته في البحر ليس مأخوذًا في نفسه اللفظ، بل هو لأجل المقام. وأما النَّضْحُ لغةً فمعناه: رشُّ الماء شيئًا فشيئًا فقط، وإن كان نَضْح البحر صَبًّا، فاعلمه.


(١) قال الخَطَّابي في "معالم السنن": إن النَّضْح في هذا الموضع الغَسْل، إلَّا أنه غَسْلٌ بلا مَرْس ولا دَلْكٍ. وأصل النَّضْح الصَّب، ومنه قيل للبعير الذي يُسْتَقَى عليه: النَّاضِح، فأمَّا غَسْل بول الجارية، فهو غَسْلٌ يُسْتَقْصَى فيه، فيُمْرَسُ باليد وُيعصر بعده. وقد يكون النَّضح بمعنى الرَّش أيضًا. ثم قال: إن النَّضح فيه ليس من أجل أنَّ بول الغلام ليس بنجس، ولكنه من أجل التخفيف الذي وقع في إزالته. انتهى مختصرًا.
قلتُ: وعلى هذا لا أدري ماذا بقي الخلاف بيننا وبين الشافعية؟ فإِن النَّضْح على ما أراده الخطَّابي هو الغَسْل بلا مَرْسِ، وهو متفق، عليه على ما يظهر من "الموَطأ"، إلَّا أن يفرِّق بإقامة المراتب في التخفيف. قال الشيخ رضي الله عنه: إنَّ كتاب الطحَاوي أحسن كتاب للحنفية إلّا أن الأسف أنهم لم يمارسوه ولا يستفيدون به بخلاف المالكية فإنهم يستفيدون من كتابه في تصانيفهم، حتى قيل: إن الطحَاوي أعلم بمذهب المالكية والشافعية من أنفسهم. والطحَاوي فقيه النفس، لا يبلُغ مبلغ كلامه إلَّا فقيهٌ كذلك، وله كتاب في الفقه الشهير "بمختصر الطحاوي"، وتعلَّم الفقه على القاضي الإِسْبِيجَابي. والبيهقي لمّا رأى كتابه "معاني الآثار"، وصنَّف لجوابه كتابًا سمَّاه "معرفة السنن والآثار"، ورَد فيه على الطحاوي في بعض المواضع، ووافقه في بعض، ثم جاء الشيخ علاء الدين التركماني فذبَّ عن الحنفية، وصنَّف كتابًا لجوابه سمَّاه "الجوهر النقي في الردّ على البيهقي"، إلّا أنه لم يُجِب فيه عن "المعرفة"، بل أجاب عن أصل كتابه الذي كان صنَّفه أولًا، أي "السنن الكبرى". انتهى، أفاده الشيخ رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>