للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لأنها إذا استمر بها الدَّمُ لم تستطع أن تتبيَّن حَيْضَها من استحاضتها، فسألت صاحب الشرع.

قوله: (إنما ذلك دم عِرْقٌ) ... إلخ، وهذه عِلَّةٌ منصوصةٌ تدلُّ على أنَّ الخارج من غير السبيلين أيضًا ناقضٌ، لأنه علَّلها بَكونها دم عِرْق، وإنما تحقَّق خروجه عن إحدى السبيلين لخصوص المقام، وإدارةُ الحكم على السبيلين في هذا المقام تركٌ للمَنْطُوق، وأخذٌ بالمسكوت، وهو كما ترى. وما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: إنَّ المقصودَ من قوله: «إنه دم عِرْق»، توكيدٌ لعدم كونه دم الحيض، وليس بيانًا لكونه ناقضًا، يأباه السياق أيضًا. ثم إن الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضًا موافقٌ للشافعية رحمهم الله تعالى في عدم النقض من الخارج من غير السبيلين، مع أن أحمد رحمه الله تعالى نصَّ على نقض الوضوء من الرُّعَاف، وقد مرَّ التصريح به.

قوله: (فإذا أقبلت حيضتُك) بالفتح وبالكسر يوميء إلى التميز بالألوان. واعلم أنه لا عِبْرة للألوان عندنا في أيام الحيض، فما تراه من السَّوَاد إلى الكُدْرَة يكون كلها حيضًا. وذهب الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى اعتباره، فجعل الأحمر الشديد والأسود منه حيضًا، ولم يَرَ باقي الألوان حيضًا. ولفظ الإِقبال والإِدبار يؤيده، فإِنه يُعْلَم منه أن دم الحيض دمٌ متميِّزٌ بنفسه، يُعْرَف إذا أقبل وإذا أَدْبَر. فالإحالة على الدم مُشْعِرٌ بأن دم الطمث مُغَايِر لدم الاستحاضة بنفسه، ومُتَمَيِّزٌ كَتمَايُز سائر المَاهِيَّات، ولذا اكتفى بالإحالة على الاسم، لأنه كان من الأشياء المتميِّزة بنفسه، كما في رواية: «فإِنه دمٌ أسود يُعْرَف».

قلت: ولا ريب أن الألفاظ المذكورة أقرب إلى نظرهم، إلا أنَّه يَصْدُق على مذهبنا أيضًا، فإِنه يمكن أن يُعْرَف الإِقبال والإِدبار باعتبار عادتها، فإذا جاء أوانُ حيضها ودَمِيت، فقد أَقْبَل حيضها، وإذا مضى زمان الحيض، فقد أَدْبَر، ثم أقول: إن في الباب لفظ آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر مستحاضة أن تَنْظُر عِدَّة الليالي والأيام الي كانت تحيضهنَّ من الشهر، فهذا إحالةٌ ظاهرةٌ على عادتها بدون تفصيلٍ بين الدماء وألوانها، وإن كان يَسُوغ لهم أيضًا أن يحملوه على التمييز، إلاّ أنَّ المُتَبَادر منه عدمه.

فالحاصل: أنَّ العُنوانَ الأول أقرب إلى الشافعية، والعنوان الثاني أقرب إلى الحنفية، وإن أمكن حَمْل أحدهما على الآخر، ولذا وَضَع أبو داود ترجمة بهذا اللفظ، وترجمة أخرى بذاك، لينبِّه على أنهما يُنْبئان عن النظرين.

وأما قوله: «فإِنه دمٌ أسود يُعْرَف»، فقد أخرجه النَّسائي في موضعين، وأشار إلى إعلاله، وفي «العلل» لابن أبي حاتم: أنه مُنْكَرٌ. وحكي الطَّحَاوي (١) عن أحمد رحمه الله تعالى


(١) قال الطَّحَاوي: فلم نجد أحدًا يرويه عن عُرْوَة عن عائشة، ولا عن عُرْوَة عن فاطمة إلَّا محمد بن المُثَنَّى، وذكر لنا أحمد بن شُعَيْب أنه لم يكن عليه لمّا حدَّث به كذلك، وقيل له: إن أحمد بن حنبل قد كان حدّث به عن محمد بن أبي عَدِي، فأوقفه على عُرْوَة، ولم يتجاوز به إلى عائشة، فقال: إنما سمعته من ابن أبي عدي مِنْ حِفْظه، فكان ذلك دليلًا على أنه لم يكن فيه بالقوي، ووقع في القلب اضطراب محمد بن المُثَنَّى فيه، لأنه قال فيه مرةً: عن عائشة، وقال فيه مرّةً: عن فاطمة بنت أبي حُبَيْش، وقوَّى في القلوب أنَّ حقيقتَهُ عن ابن أبي عدي.

<<  <  ج: ص:  >  >>