للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الأُولَى: عبارةٌ عن حالةٍ بسيطةٍ إجماليةٍ غيرِ متجزئةٍ، من شأنها الإِفادة، فلا تقدُّم


= من حيث أنه قابل لأثر ذلك التكلم، أعني الكلام النفسي، بمعنى الحاصل بالمصدر، الذي هو عبارة عن كلمات مخيلة، وألفاظ ذهنية، مرتبة ترتيبًا ذهنيًا، على وجه لو برزت كانت عين الكلام اللفظي لمن رتبها، والمغايرة الاعتبارية كافية في مثل ذلك، كما قالوا في الطبيب إذا عالج نفسه في أمراضه النفسانية، فإن النفس الناطقة حينئذ هي المعالجة، وللمعالجة باعتبارين مختلفين. ومما ينص على أن للنفس كلامًا نفسيًا بالمعنيين، قوله تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} فإن {قَالَ} بدل من -أسر- أو استئناف جواب عن سؤال مقدر، نشأ من الإخبار بالإسرار المذكور، كأنه قيل: فماذا قال في نفسه في ذلك الإسرار؟ فقيل: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا}.
وعلى التقديرين، فالآية دالة على أن للنفس كلامًا وقولًا، بالمعنى المصدري الذي هو التكلم، الذي هو فعل اختياري للنفس، وكلامًا وقولًا، بمعنى الحاصل والمصدر، الذي هو المتكلم به، والمقول الذي هو كيفية في النفس، والأول في الآية مستفاد من {قَالَ} و -أسر- والثاني هو جملة {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا}، وقوله تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} دليل أيضًا على المطلوب في أحد تفسيريه؛ والآيات في هذا المعنى كثيرة، مثل قوله تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}، وقوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وقوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ}، وقوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} ونحوها، فإن السر ما حدث الرجل به نفسه، أو غيره في مكان خال، كما في "الكشاف". فتحديث الرجل نفسه الذي هو إسراره، وإكنانه في نفسه، تكلمه النفسي الذي هو فعل اختياري للنفس، وما حدث به كلامه النفسي بمعنى المتكلم به الذي هو كيفية في النفس؛ والأحاديث أيضًا في هذا المعنى كثيرة: منها الحديث القدسي الصحيح: فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وذكرنا له تعالى في أنفسنا، تكلمنا النفسي بما يشتمل على اسمه، نحو لا إله إلا الله، أو بمجرد اسمه نحو: الله الله الله، فلأنفسنا تكلم وكلام، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، مالم تتكلم به أو تعمل به، فتحديث الأمة أنفسها، فعل اختياري لأنفسها، وما حدثت به أنفسها من الكلام النفسي، كيفية نفسانية، وفي "المعجم الصغير" للحافظ أبى القاسم سليمان بن أحمد الطبراني عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله رجل، فقال: إني لأحدث نفسي بالشيء، لو تكلمت به لأحبطت أجري، فقال: لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن، اهـ.
فتحدث الرجل السائل نفسه بالشيء المنعوت بما ذكره، هو تكلمه النفسي، والشيء المتحدث به المنعوت بالنعت المذكور، هو كلامه النفسي، بمعنى المتكلم به، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامًا في صريح كلامه، ثم في "الجامع الكبير" للسيوطي عن قباث بن أشيم أنه قال: شهدت بدرًا مع المشركين، وإني لأنظر إلى قلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيني، وكثرة من معنا من الخيل والرجال، فانهزمت فيمن انهزم، فلقد رأيتني، وإني لأنظر إلى المشركين في كل وجه، وإني لأقول في نفسي ما رأيت مثل هذا الأمر، فر منه إلا النساء، فلما كان بعد الخندق، قلت: لو قدمت المدينة، فنظرت ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في قلب -قلبي- الإسلام، فقدمت المدينة، فسألت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هو ذاك، في ظل المسجد، في ملأ من أصحابه، فأتيته، وأنا لا أعرفه من بينهم، فسلمت، فقال: يا قباث بن أشيم، أنت القائل يوم بدر: ما رأيت مثل هذا الأمر، فر منه إلا النساء؟ قال: فقلت: أشهد أنك رسول الله، فإن هذا الأمر ما خرج مني لأحد قط، وما تزمزت به، إلا شيئًا حدثت به نفسي، فلولا أنك نبي ما أطلعك الله عليه، هلم حتى أبايعك، قال: فعرض علي الإسلام، فأسلمت، اهـ. =

<<  <  ج: ص:  >  >>