للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

واعلم أنَّه جاءت الروايات في صفات التيمم على خمسة أنحاء: المسح إِلى الرُّسْغَين، والمسح إلى نصف الساعد، والمسح إلى المِرْفَق، والمسح إلى نصف العَضُد، وخامسها: المسح إلى الإباط، والمناكب، وضعَّف الحافظ أحاديث المسح إلى نصف العَضُد، ونصف الساعد.

قلت: ولعلَّ الوجه أنَّ مَنْ زاد على الرُّسْغَين بشيءٍ عَبَّروه بنصف الساعد، وكذلك مَنْ زاد على المِرْفَقين عَبَّروه بنصف العَضُد، ولم تكن هاتان صفتين مستقلتين عندهم، وإنما أريد بهما استيعابُ المَحَلّ رُسْغًا كان أو مِرْفَقًا. ولا بد في الاستيعاب من زيادة فَخُيِّل أنهما صِفَتان. أما أحاديث الرُّسغَين فأصحُّها ما في الباب، وحديث الآباط أيضًا قَوِيٌّ، وحَسَّن الحافظ أحاديثَ المَسْح إلى المِرْفقين أيضًا. ثم الاختلاف فيه في موضعين:

الأول: في الضربات، فقال مالك في روايةٍ وأحمد: تكفي ضربةٌ. وذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وصاحباه ومالك - في رواية «الموطأ» إلى أنَّه ضربتان. والتيمم بالضربتين جائزٌ عند أحمد رحمه الله تعالى أيضًا وإن كان المختار عنده ضربةً واحدةً.

والموضع الثاني الذي اختلفوا فيه: أنَّه إلى أين؟ فعند أحمد إلى الرسغين، وهو رواية عن الإِمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى ذكره صاحب «مراقي الفلاح»، والمختار عندنا وعند الشافعيّ رحمه الله تعالى أنَّه إلى المِرْفقين. وظاهرُ ما في «الموطأ» لمالك رحمه الله تعالى أنَّه يكونُ التيمم إلى المرفقين واجبًا عنده أيضًا، لكنَّ الشارحين حين حملوه على الاستحباب (١).


(١) قلت: وكأني أرى القرآن يُبْهِم الأمر ليختلفوا فيه، واختلاف أمتي رحمة ولذلك خلقهم ويبقى الناس في فسحةٍ
من الأمر، وإنما يريد الله بكم اليسر، فصرح في الوضوء بالغاية وقال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: ٦]، وسكت عنها في التيمم وقال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: ٦] ولم يتعرض إلى الغاية فيه، وهذا مُشْعِرٌ بأن الصور كلها مُحتملة فَمَنْ شاء تيمم إلى الرُّسْغَين. ومَنْ شاء إلى المِرْفقين، ولذا ذهب إلى كلِّ احتمال من الاحتمالات إمامٌ من أئمة الدين، فقيل: ضربة، وقيل: ضربتان، وقيل: إلى الرُّسْغَين، وقيل: إلى المِرْفقين.
ثم مَن اختار التيمم إلى المرفقين جاءت عنه الرواية بالرُّسْغَين أيضًا. وكأن الأئمة تختلف الرواياتُ عن إمامٍ واحد في مثل هذه المواضع لهذا أعني أن اللهَ سبحانه لو أراد أن ينحصر الدينُ في صورةٍ واحدة لانحصر فيها، ولضاق به الأمر على الناس فأراد أن لا يكون في الدين من حرج. فكم من أشياء عَيَّنها وصرح بها، وكم مِن أشياء أبهمها وهو المَرْضي لا أنه بحسب الاتفاق، أَو نحوٍ من قصور في العبارة والعياذ بالله، فإني رأَيتُ كثيرًا من العلماء يتأسفون في مثل هذه المواضع، وتتحدث بهم أنفسهم أن القرآن لو صرَّح لانفصل به الأمر، ولا يتوجهون إلى أن الله تعالى ليس غافلًا عن هذه الأشياء ولكنه أبهمها قصدًا، ونَبَّه عليه في قوله: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: ١٠١] وعدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظمهم وزرًا مَنْ حُرِّم بسؤاله شيءٌ لم يكن حرامًا في الدين، فإنه هو الذي ضيَّق على الناس وهذه فائدة عظيمة تنفعك في القرآن في كثير من المواضع، ولم أر أحدًا منهم نَبَّه عليها، ولكن شغلهم عنها الاستنصارُ لمذهبهم فقالوا: إن الله سبحانه لما ذكر الغاية في الوضوء وأطلقها في التيمم، كان الظاهر فيه التقييد بمثل ما في الوضوء، ولا أُنكر هذا الاستنباط فليكن الأمر كما قالوه، ولكن الأهم منه أّن يُنبهوا على هذا الصنيع لينفع في كثيرٍ من الآيات. وهذا لم يكن خاطري أبو عُذْرِهِ، =

<<  <  ج: ص:  >  >>