للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وإنما لم يقل: «الأفعال بالنيات» لأن بين العمل والفعل فرقًا، فالعمل "ساختن" والفعل "كردن" يعني أن العمل فيما يتمادى ويطول، بخلاف الفعل، ولذا قال: {وَاعْمَلُواْ صَلِحًا} [المؤمنون: ٥١] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [البقرة: ٢٧٧]. ولم يقل: افعلوا وفعلوا، دلالة على الدوام والاستمرار.

ذكر الكلام في الفرق بين النِّيَّة والإرادة

واعلم أنَّ المعتبر في الإرادة هو إصدار المراد، ولا يعتبر فيه غرضٌ للمريد، بخلاف النية، فإنها يعتبر فيها غرض، ولذا لا يكاد يُتْرك معها ذكر الغرض، فيقال: نويت لكذا، بخلاف الإرادة، فإنها تُستعمل بدون ذكر الغرض أيضًا، فيقال: أراد الله سبحانه، ولا يجب معه ذكر الغرض، ولذا لا يقال: نوى الله، بل يقال: أراد الله.

أقول: حاصله أن النية لما اعتُبر فيها الغرض، فلو أطلق لفظ النية في جنابه تعالى لأوهم تعليل أفعاله بالأغراض، مع أنهم قالوا: إن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض وقد مر منا تحقيقه في المقدمة، وأنه لا استحالة في كون أفعاله تعالى معللة بالأغراض، وأن ما زعموه في إبطاله باطل. نعم، لما استعمل الإرادة في لسان الشرع دون النية اقتصرنا في الإطلاق على ما ورد به الشرع، ورأينا التحرُّز عما لم يَرِد به الإطلاق أولى. وكذا حجروا على إطلاق العزم فيه تعالى، وقد وقع في مقدمة مسلم، وجوَّزَه التِّبَرِيزي، والله تعالى أعلم.

واعلم أنهم تكلموا على هذا الحديث، وأطالوا فيه الكلام من الجانبين، وحَمَلَهُ كلٌّ على مسائله، وجرَّه إلى مختاراته. ولما لم يكن فيه بُدٌّ من التقدير، إذ لا معنى لكون ذوات الأعمال بالنيات، لثبوتها حِسًا وصورة من غير اقتران النية بها، فمنا من قدَّر الثَّواب بدليل قوله فيما بعد: «فهجرته إلى الله ورسوله» وهذا هو الثواب، ومنا من قدَّر الحكم كشارح «الوقاية»، فمعناه عندنا: ثواب الأعمال أو حكم الأعمال بالنيات، على اختلاف التقديرين. وقدر الشافعية الصحة، لأن متعلَّقات الظروف لا تكون إلا من الأفعال العامة، والصحة منها، فإن الثواب بعد الصحة، فمعناه عندهم: صحة الأعمال بالنيات. وعلى هذا فالأعمال عند عدم النيات تصير خالية عن الثواب عندنا وباطلة عندهم. ثم بنوا عليه اشتراط النية في الوضوء.

أقول: وكلام شارح «الوقاية» وإن كان أولى من غيره، إلا أنه خلاف الوجدان. أما تقدير الثواب والصحة فلا يصح عندي.

أما الأول: فلأن تقدير الثواب يؤدي إلى تخصيصين في الحديث: الأول بالدار الآخرة، فإن الثواب والعقاب من أحكام الآخرة. والثاني: تخصيصه بالطاعات فقط، لأنها هي التي يثاب عليها.

بخلاف المعاصي، فإنها يعاقب عليها، فلو قلنا: ثواب الأعمال بالنيات، يقتصرُ الحديث على أحكام الآخرة، ثم على الطاعات. وأحكام الدنيا والمعاصي تخرج عن قضية الحديث

<<  <  ج: ص:  >  >>