للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

مسألة الأوقات، وبُسِطَت في موضعها كلَّ البَسْطِ، لم تَبْقَ حاجةٌ إلى ذكرها في كلِّ موضعٍ، وصارت كأنها مفروغٌ عنها، ثم يكون بناء كلامه عليها نظرًا إلى تلك المعهودية. فمن جوَّز الصلاة في الأوقات المكروهة، فقد عضَّ بإبهام «إذا»، وترك التواتر المنصوص، وعَدَل عن المكشوف إلى المجهول، مع أنه لم يَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الصلاة في عين الطلوع والغروب ولو مرةً، ولو كان فيها وُسْعَةٌ لَثَبَتَتْ فيها أيضًا، كما ثَبَتَتِ الركعتان بعد العصر (١).

قوله: (ولا يُعِيدُ إلا تلك الصلاةَ) أشار به إلى ما وقعَ عند أبي داود: «فإذا سها أحدُكم عن صلاةٍ، فَلْيُصَلِّها حين يذكرها، ومن الغد للوقت». وفي لفظٍ عنده: «فمن أَدْرَك منكم صلاة الغَدَاة من غدٍ صالحًا، فَلْيَقْضِ معها مثلَها»، وظاهره: أن كل من فاتَتْه صلاةٌ يُعيدها مرَّتين إذا ذكرها، ومن الغد إذا أتى وقتها. قال الحافظُ بعدما نقل كلام الخَطَّابي (٢) مِنْ حَمْلِهِ على الاستحباب أنه لم يَقُلْ أحدٌ من السَّلف باستحباب ذلك أيضًا، بل عدُّوا الحديث غلطًا من رَاوِيه. وحَكَى ذلك الترمذيُّ وغيره عن البخاريِّ. ويؤيِّدُ ذلك ما رواه النَّسائي أنهم قالوا: «يا


(١) قلت: ومحطُّ قوله: "إذا ذكرها" هو تركُ التوقيتِ فيها على خلاف شاكلة الصلاة المؤدَّاة، فإِنها ليست: إذ ذكرتها، بل حين جاء وقتها. وهذا ما قاله علماء الأصول عند تقسيم المأمور به: إنه مطلقٌ عن الوقت، ومقيَّدٌ به، وعدّوا الفوائتَ من القسم الثاني، فالإطلاق فيها أن لا تتقيدَ بالأوقات التي كانت مقيَّدة فيها، وتراقبها قبل أن تَفُوتَ عنك، لا أن تلقيها في الأوقات المكروهة التي نهي عنها، وهذا كالطبيب يحميكَ عن أشياء ما دُمْتَ مريضًا، فإِذا بَرِئْتَ وشُفِيتَ يجيزُ لك بأكل جميعها، ويقول: الآن كُلْ ما شِئْتَ، فيكون تعميمًا في اللفظ، ولا يريدُ إلَّا ما جاز أكله للأصحاء.
وهذا ينفَعُكَ في جواب ما أُوردَ على قوله تعالى في الحديث القدسي: "افعلوا ما شِئتُم، فقد غَفَرْتُ لكم" لا يريدُ به إلَّا التعميمَ في اللفظ، ورفعُ القيد في العُنوان كرامةً لهم، والكريمُ إذا رُفع عنه القيد في العنوان يرى نفسه أوثق مما كان، ولذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا أكون عبدًا شكورًا، فمن أكل السُّمَّ بعدما أجازه الطبيبُ أن يأكل كل شيء، وعمل بتعميمه ثم مات، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نفسه، فإن التخييرَ إنما يجري في الجائزات دون المحرَّمات.
فإن قلتَ: فحينئذٍ لم يَبْقَ فيه لأهل بدر كرامةً قلتُ: كلا، بل هي كرامةٌ أي كرامةٍ، فإِنهم قد عَملُوا عملًا كُفُوا عن كسب سائر الحسنات على حدُّ قَوله: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعده" أو كما قال فقد تكون طاعةٌ تغنيك عن الفواصل، وتكفيك لآخرتك، فهؤلاء أهل بدر قد عَمِلُوا عملًا أعلن به على لسان رسوله في الدنيا أنه كفى لنجاتهم، فليعملوا ما شاؤوا، ولا حاجةَ لهم لنجاتهم إلى تجشُّم الأعمال، وتكلُّف المشاق، وسهر الليالي والأيام، فأيَّة منقبةٍ بعد ذلك تريد؟ والحاصل: أن التعميمَ بالنسبة إلى الوقت الذي كانت الصلاة مقيَّدةً به، لا بالنسبة إلى الأوقات المكروهة، فافهمه.
(٢) قلتُ: ولفظ الخَطَّابي في "معالمه": لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بها وجوبًا، ويُشْبِهُ أن يكون الأمرُ به استحبابًا ليُحرِزُ فضيلة الوقت في القضاء، اهـ. أَمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا كفارةَ له إلَّا ذلك"، فقال الخَطَّابي: يريد أنه لا يَلْزَمُه في تركها غُرْمٌ أو كفَّارةٌ من صدَقةٍ أو نحوها، كما يَلْزَمُه في ترك الصوم في رمضان من غير عذر الكفِّارة، وكما يَلْزَم إذا ترك شيئًا من نَسكه كفارةٌ، وجبران دم، وإطعامٌ، ونحوه. وفيه دليلٌ على أن أحدًا لا يُصَلِّي عن أحدٍ كما يَحُجُّ عنه، وكما يؤدِّي عنه الديون ونحوها. وفيه دليلٌ على أن الصلاة لا تُجْبَرُ بالمال، كما يُجْبَرُ الصوم ونحوه. اهـ.
قلت: أَمَّا لزوم الكفارة من ترك الصوم في رمضان من غير عذر، فلا أَعْرِفُ أن يكونَ مذهبًا للأئمة الأربعة، إلَّا أن يكون المرادُ من الترك الفسادَ، والإِفطار بعد الصوم، أمَّا إذا لم يصُم فلا كفَّارة عليه، وعليه قضاءٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>