للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

رسول الله، أَلا نقضِيها لوقتها من الغد؟ فقال صلى الله عليه وسلّم لا، يَنْهَاكم اللَّهُ عن الرِّبَا، ويأخذَه منكم» (١)؟

قلت: وهو عندي محمولٌ على الاستحباب، كما قال به الخَطَّابي: أنه يُشبه أن يكونَ الأمرُ فيه للاستحباب، ليُحْرزَ فضيلة الوقت في القضاء. اهـ. والحديث عندي صالحٌ للعملِ، فلا يُسوَّغُ إنكاره أو التخلُّص بنحوٍ من التضعيف. نعم، يجري البحث في أن مَنْ أَعاد الصلاة للتكميل، فهل يَسَعُ له أن يُصَلِّيهَا في الأوقات المكروهة؟ ويَلْزَمُ من أقوالهم أن ذلك واسع له. ثم رأيت في مناقب الإِمام الأعظم رحمه الله تعالى أنه فاتته صلاةٌ مرةً، فكان يُعيدها إلى زمانٍ طويلٍ (٢).


(١) قلتُ: هكذا وجدته في "الفتح"، وفيه غلطٌ من الناسخ، واللفظ الصحيح: "ينهاكم الله عن الربا، ويأخذه منكم"* ثم سِيَاق كلام الحافظ رحمه الله تعالى يدلُّ على أنه أتى بهذه الرواية لتؤيِّد عدم الاستحباب، مع أنها تَدُلُّ على خلافه، كما في "حاشية أبي داود" عن ابن حِبَّان. وذكر ابن حبَّان في "صحيحه" فقال بعد رواية هذا الحديث: هذا أمرُ فضيلةٍ لمن أَحب ذلك، لا أن كلَّ من فاتته صلاة يُعيدها مرتين إذا ذكرها والوقت الآتي من غدها، ثم روى حديث الحسن، عن عِمران بن حُصَيْن أنه - صلى الله عليه وسلم - لمَّا صلى بهم، قال: "قلنا يا رسول الله: أَلَا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال: نهاكم ربكم عن الربا، ويقبله منكم"؟ اهـ.
ويمكن أن يكون لفظ "ذلك" في قوله: ويؤيِّد ذلك، إشارةً إلى قول الخَطَّابي، وحينئذٍ يَرْجِعُ إلى ما قاله ابن حِبان.
وفيه تأويل آخر ذكره الشارحون، وهو: أنه إذا فاتته صلاة فقضاها، فلا يتغيَّرُ وقتها في المستقبل، بل يُصليها من الغد لوقتها المعهود.
قلتُ: وهذا أعجب إليَّ، وإليه يشيرُ ما عند مسلم في بعض طُرُق حديث قَتَادة، ولفظه: قال: "فإذا كان من الغد، فلْيُصلها عند وقتها". اهـ. وهو معنى ما عند أبي داود: "فلْيُصَلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت". أي أنه يقضي اليوم الفائت حين يذكرها، أَمَّا من الغد، فإنه يصلِّيها للوقت المعهود. نعم، لا يتحمله اللفظ الثالث عند أبي داود كما مرَّ، لأن فيه تصريحًا بقضاء مثلها، وكذلك ما استشهد به الحافظ من رواية النَّسائي.
وأنت تعلم أن ألفاظَ الحديث إذا اختلفت ولم تأتِ على موردٍ واحدٍ، فلا سَبيلَ إلَّا إلى الترجيح، وإنما ذهبتُ إلى هذا التوجيه لَمَّا وجدت ألفاظَ الحديث تشير إليه، لِمَا في ألفاظه: "فَليُصلهَا إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها"، فهذا يُوهِمُ أنه إذا صلَّاهَا اليوم في ذلك الوقت، لأن ذلك وقتها، فلعلَّه يُصلِّيها بعد ذلك أيضًا في ذلك الوقت لما يكون وقتُهَا قد تحول إليه، فأزاحه أن قوله: "فإن ذلك وقتها" لهذه الفائتة فقط، ولهذا اليوم فقط. أمَّا من الغد، فإنه يُصَلِّيها لوقتها.
قلت: ولعل لفظ "الفتح" هو الصحيح، فكلمة "لا" في قوله - صلى الله عليه وسلم - جوابٌ بالإنكار لِمَا سألوه عنه. فمعنى قوله: "لا" لا تقضوا، وقوله: "ينهاكم عن الربا" ... إلخ استعجابٌ واستعظام، يعني كيف يكون ذلك، أينهاكم عن الربا ويأخذه منكم؟ كلا لا يكون ذلك. وعلى هذا المحمل ما عن عِمْرَان بن حُصَيْن عند ابن حِبان، فتطابقت الروايتان، فليست كلمة "لا" داخلة على "ينهاكم". (المصحح البنوري).
(٢) قلتُ: ولعلَّ مراد الشيخ من حمله على الاستحباب هو الاستحباب للخواص، وقلما يأتي ذكره في الفقه، كالوضوء من مسِّ الذكر، ومسِّ المرأة، ولحوم الإبل عنده، وقد مرَّ تقريره. فلا يرد أن استحبابَه لم يُنقل عن أحدٍ من السلف، فإنه مستحبٌّ لأجل المعنى فقط. والذي يُنْقَل ونُعْنَى به هو المستحبُّ لأجل المعنى والصورة جميعًا. وقد حققناه من قبل. والله تعالى أعلم بالصواب. اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>