للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المعطوف عليه مقامه، لكونه دالاًّ عليه وسببًا لعلمه، وليس بناء على الترك، بل لأن المطلوبَ في التأمين هو الموافقةُ مع الإمام.

وحينئذٍ لا بُدَّ أن يُحَال تأمين المأموم على قراءة الإِمام بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلخ، ليصيرَ المقتدي بعد سماعه على أُهْبَةٍ من تأمينه، فيُؤَمِّنُ إذا فَرَغَ الإِمامُ من قراءته ويُؤَمِّنُ، وتتحصَّل الموافقةُ المطلوبةُ، ولو علَّق تأمينَه على تأمين الإِمام لفاتت الموافقة، فإِن تأمِينَ القوم حينئذٍ يقع بعد تأمين الإِمام لا محالة، ولا تَحْصُلُ الموافقة. فإِذن قوله: «إذا أَمَّنَ الإِمامُ فَأَمِّنُوا»: لبيان موضع الالتقاء، ولبيان الجهر بهما. وقوله: «وإذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلخ، لبيان موضع التأمين ولزوم الموافقة.

وأما المالكية فتمسكوا من قوله: وإذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلخ؛ بأنه يَدُلُّ على التقسيم كقوله: «إذا قال الإِمامُّ: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد»، على ما قرَّرنا، فقلنا بالتسميع للإِمام، والتحميد للمقتدي. كذلك قال المالكية ههنا: إن الإِمام يقرأ فقط، فلا يُؤَمِّنُ، ويُؤَمِّنُ المقتدي فقط ولا يقرأ، فهو على التقسيم.

قلتُ: ولعلَّهم قاسُوا التأمين في الصلاة على التأمين في الخارج، وليس في الخارج إِلا المقاسمة بين الدعاء والتأمين، فيدعو واحدٌ ويُؤَمِّنُ آخرون. فهكذا جعلوا الإِمام داعيًا، والمأمومين مُجِيبين، فلو أمَّنَ الإِمامُ أيضًا لا نقلب الموضوع، وصار الداعي مُجِيبًا، فَيَقْتَصِرُ على قوله فقط، ولا يَبْسُطُ يده إلى حقِّ غيره.

وأجابوا عن الحديث: بأن معناه: إذا حملكم الإِمامُ على التأمين، بأن يقرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّآلّينَ}، أو: إذا بَلَغَ الإِمامُ موضِعَ التأمين، فأمِّنُوا. وليس معناه: إذا قال الإِمام: آمين، ليكون دليلا على تأمينه. وجعلوه من باب أَنْجَدَ وأَعْرَقَ أي: دخل في النجد والعراق، ولا أرى التأمين ثابتًا في اللغة بهذا المعنى، فإِن التَّعْدِية بهذا الطريق لو ثَبَتَت عندهم، لكان نادرًا جدًا، كما سيأتي في الجنائز.

والحاصل: أنهم حملوا هذين الحديثين على معنين متغايرين، بحيث صار كلٌّ منهم مُسْتَدِلاًّ من أحدهما، ومُجِيبًا عن الآخر، وذلك لأنهم أشكل عندهم جمع أحد اللفظين مع الآخر، لأن اللفظَ الأول ينادي بتأمين الإِمام، واللفظ الثاني يُشِيرُ إلى تركه، فبنى كلٌّ منهم مذهبه على واحدٍ منهما، وتأوَّلَ في الآخر حسبما أدَّى إليه اجتهاده وذوقه، وللناس فيما يَعْشَقُون مذاهب.

وما كَشَفَ اللَّهُ عليَّ سبحانه: أن أحد الحديثين لا يلتقي مع الآخر، وهما وَرَدَا في مَطْلَبَيْنِ. فالحديث الأول، أي: «إذا قال الإِمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلخ وَرَدَ لبيان وظيفة القوم عند فراغ الإِمام عن قراءته، وذِكْرُ فضيلة التأمين فيه استطرادٌ، وإنما أُحِيلَ فيه على قراءة الإِمام دون تأمينه لنكتة ذكرها الشافعية، وهي: تحصيل التوافق بين التأمينين، والحديث الثاني، أي: «إذا أمَّن الإِمامُ ... » إلخ سِيقَ لبيان فضيلة التأمين فقط، وتأمين الإِمام فيه تمهيدٌ لذكر تأمين المأموم، وبيانٌ لموضع تأمينه.

<<  <  ج: ص:  >  >>