للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

توافِقُ واحدًا منهما بتمامه، بل سَلَكَت مسلك الإِجمال في موضع التفصيل.

وأكبر ظني أن القرآن أَجْمَل فيه قصدًا ليتوسَّعَ الأَمْرُ، ولو صرَّح لَتَعَيَّنَتْ تلك الصِّفَةُ، فقال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: ١٠٢] نُسِبَ إلى أبي يوسف رحمه الله تعالى أن صلاةَ الخوف كانت مخصوصةً بِعَهْد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لأنها شُرِعت حال كونه فيهم. وأما بعدَه فلا حاجةَ إليها فَتُصَلِّي هذه الطائفة خَلْفَ إمام، وتلك الطائفة خلفَ إمامٍ آخرَ على الصفة المعهودة، بخلافه صلى الله عليه وسلّم فإنَّ كلا منهم كان يتنافس أن يصلِّي خلفه، فاحتيج إلى صلاةِ الخوف.

ولا دليلَ عليه عندي. فلعلَّهُ مسامحةٌ في النقل عنه، وذكر فيه صفة الركعةِ الواحدة وسكتَ عن حال الركعة الثانية، وكانت هي مَوْضِع الانفصال. ثم إنَّه عَبَّر عن صلاةِ الطائفةِ الأولى بالسجدة فقال: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: ١٠٢] ... إلخ فتبادر منه أنهم بَعْد الركعة تَحَوَّلُوا إلى وِجَاه العدو ولم يُتِموا لأَنْفُسِهم بَعْدُ. ول أتموها لأَطلق عليها الصلاة، فإطلاقُ السجدةِ على صلاتِهم يؤيدُ الحنفيةَ، لأنه يَدُلُّ على عدم تمامية صلاتهم بعد، بخلافها على مذهب الشافعية، فإنهم يقولون: ثُمَّ إذا بدأ ذِكْر الطائفة الثانية قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} [النساء: ١٠٢] أي لم يدخلوا معك في التحريمة: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: ١٠٢] فَعَبَّر عن ركعتها بالصلاة. فتبادَر منه أنهم أتمُّوا صلاتَهم في ذلك المكان. وهذا أقرب إلى الشافعية، فإنَّ الطائفة الثانية عندهم لا تَرْجع حتى تُتِمَّ صلاتها، ومِنْ ههنا قام البحث:

فقال الحنفية: إن المراد من قوله: {فَلْيُصَلُّواْ} فليسجدوا بقرينةِ: {فَإِذَا سَجَدُواْ}. وقال الشافعية: المراد مِنْ قوله: {فَإِذَا سَجَدُواْ} فإذا صلوا بقرينة قوله: {فليصَلُّوا}.

والحاصل: أن لفظ السجدة في الطائفة الأولى أَقْرَبُ إلى الحنفية، ولفظ الصلاة في الطائفة الثانية أقربُ إليهم. نعم لو ذهبنا إلى الصِّفة التي في الشروح لانطبقت الآية على مذهبنا بجزئيها. فإنَّ الطائفة الأُولى ترجع بعد ركعة، وتجيء الطائفةُ الأخرى وتُتِمُّ صلاتَها أولا، ثم ترجع وهذه الصفة بعينها في الآية. ثم أقول من جانب الحنفية على صفة المتون: نكتةَ التعبيرِ لركعة الطائفة الثانية بالصلاة مع أن المرادَ منها هي الركعة، تُرِكَ، فإذا تركه على السجدة فلو أخذ في السجدة ولم يغير التعبير لدل على اتحاد السلسلة، وأن الطائفة الثانية تأخذ من حيث أنه لو قال: «ولتأتِ طائفةٌ أُخْرَى لم يُصَلّوا فليسجُدُوا معك» لتُوُهِّم منه شروعُ الطائفةِ الثانية من حيثُ تَرْكُها الأُولى، وهي السجدة، وإن لها هي تلك الركعة فقط، فعبَّر بالصلاةِ تنبيهًا على أن عليهم الصلاةَ تامةً، كالمسبوق. وذلك لما قاله سيبويه: إن الفاء للسَّرْد، والواو للجمع.

ومعنى السَّرْد أنها تجعلُ الشيءَ في سلسلةٍ واحدةٍ. فالمجيءُ في قولك: جاءني زيدٌ فعمرٌو مجيءٌ واحدٌ، تَعَلَّق أولا بزيد، ثم بعمرو، لدلالة الفاء على عدم نقضِ سلسلة المجيء. بخلافه في قولك: جاءني زيدٌ وعَمْروٌ فإنهما مجيئانِ مجيءُ زيدٍ ومجيءُ عمرو. ولا دِلالة لها على كَوْن المجيء في سلسلةٍ أو في سلسلتين وحينئذٍ لو قال: {فليسجُدُوا} لدلت الفاء على اتحاد سلسلةِ سجدة الطائفة الأولى بسجدة الطائفة الثانية، لأن الكلام المليح أن يُفْتح من حيثُ ترك فإذا تركه

<<  <  ج: ص:  >  >>