للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

النار». ومع ذلك ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في باب ذَهاب النساءِ والصِّبيان إلى العرس عند البخاري «أنه قام لهم مُمتنًا». وفي نسخة: «مثيلا». وفي لفظ: «ممثلا». اهـ. وذلك لاختلاف الأحوال فيه. فالشيء قد يكون مِنْ آخِر مراتب الإِباحة بحيث لا تبقى بعدها إلا مرتبةُ المنع. وفيها تتجاذبُ الإباحة والنهي فيبَاحُ لكونها كذلك في نَفْس الأمر. ويُنْهَى عنه لكونِهِ يُخشى أن تَنْجَرَّ فتقع في الحرام. وأحسنُ الطُّرق وأعدلُهَا ما اختاره النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فَحَوَّل وجهه عنه. وفي رواية: «غط»، دلالةٌ على أنه وإن أغمضَ وسامح عنه، لكنه ليس راضيًا ولا مُتَلَذِّذًا به. فلو نهى عنه صراحةً لَفُقِدت الإباحة، ولو لم يَغْمُض عنه وَحَظِي به لارتفعت الكراهة أصلا. وهذا هو حالُ الإِباحة المرجوحة.

ولعلك عَلِمْت منه الفَرْقَ بين طريق النبي صلى الله عليه وسلّم وبين أبي بكر رضي الله عنه حيثُ كان طريقُه الإِغْماض، وطريقُ أبي بكر السَّخَطَ والاغتياظ، فلو سلك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم طريقَ أبي بكر رضي الله عنه لَحَرَّمَ الغناء، ولم تَبْقَ منه مرتبةٌ في حدِّ الجواز. ولو فَعَل أبو بكر رضي الله عنه مِثْلَ ما فعله النبي صلى الله عليه وسلّم لم يُسْتَحْسن منه، لأنه لا يُحرَّم ولا يَحِل بإِنكاره شيءٌ، فالأليق بشأنهِ ما يَنْسَدُّ به الباب.

وقال الشاه إسماعيل: إنه كان فِعْل الشيطان، لكن ليس كُلُّ فِعْلِه حرامًا وإن كان قبيحًا. وهو أيضًا يؤوَّلُ إلى ما قلنا آنِفًا. وحينئذٍ فالحاصل أنه فرّق بين قليل الغناء وكثيرهِ، والاعتيادِ به وعدِمه. فالقليل منه مباحٌ والإِصْرار يَبْلُغُ حَدَّ الْمُنْع، وبِمْثله الفَرْقُ في الدُّفِّ.

وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لو كان بطريق الإِلهام فممنوعٌ. ثم إن الفَرْق بالقلة والكثرة شَائِعٌ: ففي فِقْهنا أنالأشربة من غير الأربعة يجوزُ القليلُ منها دون الكثير، وكذا الحرير يجوزُ بِقَدْر الأصابع الأربعة دون الكثير، وهكذا في القرآن: {إلا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفةً مِنْهُ} (البقرة: ٢٤٩) فأباح الغَرْفة ومنع عمَّا زاد. ومن هذا الباب حديث الائتمام: «إنما جُعِل الإِمَامُ لِيؤتَمَّ به»، وفيه: «إِذَا صلى قاعِدًا فصلوا قعودًا». ليس فيه إلا أَحَبِّيةُ القعودِ وجوازُ القيام كما استقرَّ عليه الحافظ رحمه الله تعالى. وراجع مسألة القيام من «المدخل» لابن الحاج المالكي.

قوله: (مِزْمَارةُ الشَّيْطَانِ) (بانسرى)، وذكرها بطريق الإِلزام وإلاّ فلم تكن هناك مِزْمَارة.

٩٥٠ - وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِمَّا قَالَ «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ». فَقُلْتُ نَعَمْ. فَأَقَامَنِى وَرَاءَهُ خَدِّى عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ «دُونَكُمْ يَا بَنِى أَرْفِدَةَ». حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ «حَسْبُكِ». قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ «فَاذْهَبِى». أطرافه ٤٥٤، ٤٥٥، ٩٨٨، ٢٩٠٦، ٣٥٢٩، ٥١٩٠، ٥٢٣٦ - تحفة ١٦٣٩١

٩٥٠ - قوله: (بَنُو أَرْفِدَة) لَقَبٌ للحبشَةِ، ثم قيل: إنها واقِعَةٌ قبل نزولِ الحِجَاب (١).


(١) يقول العبد الضعيف: قال الحافظ رحمه الله تعالى: واستُدل به على جواز سماع صوتِ الجارية بالغناء ولو لم تكن
مملوكةٌ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُنْكِر على أبي بكر رضي الله عنه سماعه، بل أنْكَر إِنْكَارَه، ولا يَخْفى أن محل الجواز ما إذا
أمِن الفتنة بذلك. اهـ. قلتُ: وهذا هو صَنِيعه - صلى الله عليه وسلم - مع الجائزات المبغوضة، أي الإِغماض عنها مع عدم الشركة فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>