للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لم يَبْقَ نِزَاعٌ إلا في إطلاق لَفْظ الوجوب، وهذا كما ترى مما لا ينبغي فيه النزاع.

ثم الأفضل عندهم أَنَّ الوِتْر ثلاثٌ بتسليمتين، فإنْ كانت بتسليمةٍ فالأفضلُ أن تكون بقعدةٍ على الأخيرة. فإن صلاها بقعدتين على الثانية والثالة مع تسليمةٍ واحدةٍ، فقيل إنه مَفْضولٌ، وقيل: غير صحيح. ثم قالوا: إنه إن صلاها خمسًا فطريقُها أن يصليها بقعدةٍ على الأخيرة، أو بقعدتين على الرابعةِ والخامسةِ، ثم إن شاءَ سَلَّم على الرابعة والخامسة فقط، وقِسّ عليها حالَها إلى إحدى عشرةَ. وإن أَرَدْتَ أن تكتفي بواحدةِ الوِتْر فذا عندهم جائزٌ أيضًا.

أما عند مالك فظاهرُ موطئة إن الوِتْر ثلاثٌ بتسليمتين وجوبًا ولا تصح بواحدةٍ. وتأوَّله الشارحون وقالوا معناه نَفْيُ الكمال، وذهبوا إلى استحباب الثلاثِ مع صحَّة الواحدة. وقريبٌ منه مذهبُ أَحمد رحمه الله تعالى.

قلتُ: لم يَثْبتُ عن النبيّ لله الاكتفاءُ بركعةٍ واحدةٍ قط بحيث لا يكون قَبْلَها شيءٌ ولا بَعْدَها شيءٌ، كما أقرَّ به الشيخُ عمرو بنُ الصَّلاح. وكذا ليس عندهم للفَصْل بينَ ركعاتِ الوتر شيءٌ غير المُبْهَمَاتِ.

ولنا في كونها ثلاثَ ركعاتٍ وأن لا تسليمَ بينها صرائح ضوامَر من النصوص. وأما المصنِّف رَحِمه الله تعالى فقد وَافَقَنَا في تَغَايُرِ الصلاتين. ولعلَّه وافقنا في الوجوب أيضًا، كما سيجيء تقريره، وكذا في أنه ثلاثُ ركعات ولذا لم يُخرِّج في الباب الأَحاديثَ التي تَدُلُّ على كونِ الوِتْر خَمْسَا إلى ثلاثةَ عشرَ، نعم خالفنا في كونها بتسليمةٍ وجَزَم بكونها بتسليمتين. ثُمَّ لم يستطع أن يستدلَّ عليه إلا بأثرٍ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه. فلنا أيضًا آثارٌ عن عمر، وعليَ، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم.


= مع أن النصوص تدل على بقائها في نظر الشارع بعد؟ ألا ترى كيف ردَّدت الأحاديث في وقت العشاء فجعل لها نصفًا، وثُلثًا، وأكثر منه، وأقل على التوزيع في المُزّمل بصلاة الليل، فكأن وقتَ العشاء ينقسم بحَسَب صلاة الليل إلى نصف، وثلث، وغيرهما، وعليه التردِيد في نزول الربِّ تبارك وتعالى ففي حديث النصف، وفي آخَرَ الثلث، وتصدى فيه الناسُ إلى الترجيح، والصواب عندي أن الترديد فيه لمكان الترديد في صلاة الليل، فالنزول على أنحاء نحو منه على النصف ونحو آخر على الثلث، وهكذا والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وبالجملة لَمَّا لم تُنْسخ صلاة الليل قلنا: إن أدناها الوِتر، ولما كان طريقُه، ظنيًا قلنا بوجوبه. وأورد عليه أن لفظ "أَمَد" لو دل على كونِ الوتر واجبًا لوجب أن تكونُ سنةُ الفجر أيضًا واجبة، لأنه وَرَد فيها ذلك اللفظ بعينه. قلت: وهي كذلك عندنا في رواية الحسن بن زياد. ثم رأيت فيه من ذلك السَّند بعينه لَفْظَ الوِتْر أيضًا مكانَ سُنة الفجر، فحكمت أنَّ هذا المضمون إنما كان ورد في الوتر، فَتَوهَّم فيه بعضُهم ونَقَل سُنةَ الفَجْرِ مكانَ الوتر. وكتب الشيخُ عَلَمُ الدين السخاوي رسالة مستقلة على فرضية الوتر، وعدَّة أسطرٍ منها منقولةُ على حاشية البحر وفيها إني نبأ الأمة أن الوتر فرض. ولنا ما أخرجه أبو داود: "الوِتْرُ حَق فَمَن لم يُوتِر فليس منا". أما قوله - صلى الله عليه وسلم - "فأوتروا يا أهلَ القرآنِ"، فالمراد منهم مَنْ كان يَحْفَظُ القرآنَ دون المؤمنين، وإنما خُصُّوا بالخطاب لأن مشروعيةَ صلاةِ الليل لتلاوةِ القرآن، فهي آكَدُ في حَقهم. ومَنْ فسَّرَهُ بالمؤمنين إنما حَمَله على ذلك أَنه ظَنَّ أنه يُخالِفُ وجوب الوِتْر شيئًا، لأنه يدل على أَن الوِتْر ليس على عامتهم مع أن المرادَ من الوتر صلاةُ الليل كما يُرشد إليه عبارةُ إِسحاق عند الترمذي فافهم منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>