للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يكونَ مرادُهُ عدم لزوم السجود خاصة، بل تتأدَّى بالرُّكوع أيضًا، لما في الآيةِ مِنْ ذِكْر الرُّكوع فقال: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: ٢٤].

وفي «الفتاوى الظهيرية»: أنَّ سجدةَ التلاوةِ تتأدَّى عندنا بالركوع، سواءٌ، تليت في الصلاة أو خارجِهَا. وهو المختار عندي، وعليه عملُ السَّلف وإن لم يكن في عامَّة كُتُبِنَا. ففي «المُصنَّفِ» لابن أبي شَيْبَةَ: أن السَّلَف إذا كان أحدُهم يقرأُ القرآنَ ويَمُرُّ على آيةِ سجدةٍ، يركعُ في الطريق». فدلَّ على ما قلنا.

وقد تمسَّك الحنفيةُ على تلكِ المسألةِ بتلك الآية، حيث ذُكِر فيها الرُّكوعُ بَدَل السجود. وأَقرَّ به بعضُ المفسرِّين وإن ردَّ عليه الشيخ ابنُ الهُمَام. وهذا الاستدلالُ ناهضٌ عندي، واعتراض الشيخ ابنِ الهُمَام رحمه الله تعالى ساقط كما سنقرره.

ثم إنَّه لا سجدَة في «ص» عند الشافعية، وعندهم في «الحجِّ» سجدتان (١)، وعندنا في


= ثُمَّ إنَّ مَن لم يَسجدها لا يدل على كونها سنة عنده، لما روى الطحاوي: أن ابنَ الزُّبير رضي الله عنه قرأ السجدةَ فلم يسجد، فقيل له: "ما مَنَعَك أن تَسجدَ؟ فقال: إذا كنت في صلاةٍ سجدت، وإذا لم أكن في الصلاةِ فإني لا أَسجد" -بالمعنى-. فهذا أيضًا نظرٌ، يعني الفَرق في تلاوتها وخارجها كما اختاره أَحمد رحمه الله تعالى، ثم يعلَم مِن بعض الرواياتِ الفَرقُ بِقَصدِها وعدمِه وإن لم يكن معتبرًا عندنا، فعند الطحاوي رحمه الله تعالى: أن سلمانَ مرَّ بقوم قد قرأوا بالسجدةِ، فقيل: "ألا تسجد؟ " فقال: "إنَّا لَم نَقْصِد لها"، ويمكن أن يكون هو مَرجِع قول عمر رضي الله عنه: "إن اللهَ لم يكتُبهَا علينا إلا أنْ نشاء". فلتراع هذه الأمور، ولا ينبغي أن يحكم بالسنية نظرًا إلى مَن لم يأت بها إجمالًا مع بقاءِ احتمالِ وجوبها على الفَور عنده، أو على التراخي، فإنه مرحلة أخرى. وعند أبي داود في سجدتي الحج مرفوعًا: "ومَن لم يسجدهما فلا يقرأهما"، فدل على التأكد، هذا في الوجوب والسنية، أما مسألةُ أعدادِ آياتِ السجودِ فمسألة أخْرَى.
(١) قال صاحب "الهداية": والسجدةُ الثانيةُ في الحج للصلاة عندنا. وفي "الكفاية": ومذْهَبُنَا روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وابن عمر رضي الله تعالى عنه، قالا: "سجدةُ التلاوة في الحج هي الأُولى، والثانية سجدةُ الصلاة، حيث قرن به، وقال: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: ٧٧] والسجدةُ المقرونةُ بالركوع سجدةُ الصلاة. قلتُ: وقد تعقب عليه ابنُ القيم من وجوه: منها أن السجدةَ المقرونةَ بالعبادةِ لما لم يدل على كونِهَا سجدة الصلاةِ فكذلك المقرونةُ بالرُّكوع أيضًا.
قلتُ: ولقائل أن يقول بالفرق: إن السجدةَ المقرونةَ بالرُّكوع لا تكونُ إلا في الصلاةِ، بخلاف المذكورة مع العبادة. كقوله تعالى في النَّجم: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)} [النجم: ٦٢] فإن العبادة أوسعُ من السجودِ وغيره فلا تستلزم السجدةَ. ومنها أن أكثر السجدات المذكورة في القرآن متناوِلة لسجودِ الصلاة، فإن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: ١٥] يدخل فيه سجود المصلين قَطعًا ... إلخ. وجوابُه أنه فَرق بين كونِه متعددا وبين كونه داخِلًا في عموم السجود، فالمقرونة بالركوعِ هي التي في الصلاةِ فتختص بهما، بخلاف غير المقرونة فلا تختص كذلك.
وبالجملة الإيرادات كلهَا من باب التضييق في محل الاستدلال، مع أن أكثرَ الاستدلالات من القرآن تكون على نحو إيماء ومناسبات، وقلما يكون أَن يَردِ النص متعينًا لواحدٍ، وإنما شأنه أرفع وأرفع، فيَرِدُ محتمَلًا للمَحَامِل، غير أن بعضَها أَقْرَبُ من بعض، فمن كان في يديه ظاهر النص فهو الأَسْعد به. =

<<  <  ج: ص:  >  >>