للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لمقاومته، وليس لهم حَقٌّ علنيا، فإنَّا لم نَقُل بجواز الإِتمام بتلك التأويلات. وقد غالط فيه بعضٌ من الشافعية، وغَلِظ فيه بتعضٌ من الحنفية، فجعل يتكلمُ في الجواب عما أوردَهُ، ولم يَدْرِ أن مسألةَ وجوبِ القَصْر غيرُ سألةِ جواز الإِتمام بتأويل دون تأويل. وليس للشافعيةِ في جواز التقصير إلا ما عند الدارقطني عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قَصَرَتْ في فتح مكةِ وأَتَمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فلما أَخْبرَتْهُ قال: أَحْسَنْتِ. قال ابن تيمية: وهو موضوع.

قلتُ: كلا لا أَزْيَدَ من أن يكون معلولا، كما قال به ابنُ كثير، لأنها لم تكن في هذا السَّفَر مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم كما قال به محمد بن إسحاق في سيرته. ونَقَل تلك العلةَ عند المِزِّي في رواية النسائي فاستحسنها. وأيضًا فيه: «كان يَقْصُر ويتِمُّ، ويُفْظرُ ويَصُوْمُ». وإسنادُهُ مستقيمٌ. والجواب عندي أن هذا التحسينَ من باب عدم التعاقب على أمرٍ ماضٍ سبق عنها قبل الاستفسار مِنْ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإنها لو كانت في هذا السَّفَر لكانت تابعةً، فلعلَّها نَوَت الإِقامةَ فَأَتمَّت ولم تدر أن نيةَ الإِقامةِ إنما تعتبرُ من المتبوع دون التابع، فإذا رَدَّت الأَمْرَ (١) إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لم يعاقِبْها عليه، وكأنه أَغْمَضَ عَمَّا فعلَتْه وهي غيرُ عالِمة.

وأُجيب عن الثانية أنَّ فيها تَصْحيفًا، والصحيح أن الضمائرَ فيها للمؤنث. أي تَقْصُر وتُتِمم ... إلخ فهو حكايةٌ عن فِعْل عائشةَ رضي الله عنها. وقيل: يَقْصُر أي في السفر. ويتِمُّ أي في الحَضَر، أو يَقْصُر في السفر إذا لم يَنْو الإِقامة ويتِمُّ إذا نواها.

وبالجملة لما لم يَثْبُتِ الإِتمامُ في السَّفَر إلا عن عثمانَ وعائشةَ رضي الله عنهما، وهو أيضًا بالتأويل، ثبت أن المَذْهَبَ مَذْهَبُ الحنفية رحمهم الله تعالى، وإليه ذهب الجمهور. ولذلك لما بلغ إتمامُ عثمانَ رضي الله عنه عَبْد الله بن مسعود رضي الله عنه استرجع، كما في الحديث الآتي. فإن قلت: لَمَّا كان مذهبُ ابن مسعود رضي الله عنه كما وصفت، فَلِمَ ائتم به وصَلَّى خَلْفَه أربعَ ركعاتٍ؟ على أنه يثبتُ عنه جوازُ اقتداءِ المفترضِ خَلْفَ المتنفل. فإنَّ عثمان رضي الله عنه حينئذٍ متنفِّلٌ في الشَّفْع الأخير عنده، وهو باطِلٌ عندكم.

قلتُ: هذه المسألةُ مُجْتَهَدٌ فيها، والاقتداء في جِنْسِ هذه المسائلِ بجوزُ من واحدٍ لآخَر، كما في «الدر المختار» عند تعديد الواجبات، فَصَرَّح في ضِمْنه: أنَّ المتابعةَ تَصِحُّ عندنا في الاجتهادات كلها. وأَوْضَحَهُ الشَّافعيُّ رحمه الله تعالى، ونقله الحافظ ابن تيمية عن الأئمة الأربعة.

قلتُ: فهذا بابٌ عندنا وسيعٌ، فيتَّبع الإمام في رَفْع اليدين والتأمين أيضًا لو اتفق الاقتداء


(١) قلتُ: ولو كان الإتمام مُسْتَحْسَنا كما يُشْعِرُ به اللفظُ لأتَمَّ بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل لو كان جائزًا لم يَتْرُكه إلا أَنْ يَفْعَلَه ولو مرة مع أنه لم يَثْبُت عنه أصلًا. ثم أقول: إن في نَفْس قولها: "أتممت وقصرت" استغرابٌ منها، كأَنَّها لم تكن عَالِمة من قبل، فإذا عَلِمْت أَخْبرتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لِتَعْلم نوعَ خلافِ لما قَصَرت فيه، على حَدِّ قَوْل الصِّديق الأكبر رضي الله تعالى عنه: واللهِ إنَّا لنجدُ مِثْله، حين قال له حَنْظَلَة: نَافَقَ حَنظَلَةُ، فذهبَا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى آخِر القصة. ولذا حَسَّنَها النبي - صلى الله عليه وسلم - كي يسكن فؤادُه، كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: ٥٣] ... إلخ. ليس فيه تَشْجِيعٌ على المعاصي، بل فيه تسكين لِمَن بَلَغ حاله القنوط بعد الإِسراف، فافهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>