للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

غَررٌ كما عما عن عقد إجارة الدار شهراً مع إمكان كون الشهر تسعة وعشرين يومًا أو ثلاثين يومًا، وعن الشرب من السفَّاء مع كون السقاء لا يقف على الحد الذي ينتهي إليه شارب الماء منه. ولم يعف عن بيع الطير في الهواء والسمك في الماء، وما ذاك إلا أن الغرر إذا كان يسيرًا غير مقصود فإنه يعفى عنه. وكذلك إذا كان القصد به الارتفاق ورفع المشاق فعفي عن ذكر الدار لأجل أن زيادة يوم على تسعة وعشرين يومًا أو عدمه لا يلتفت إليه المتعاقدان. وكذلك أجزنا بيع البرنامج لما في ذلك من الارتفاق ورفع المشاق بنشره وحله وطيه. وقد قال ابن الجهم من أصحابنا: لو قال له: بعني قطن جبتك أو جنين أمتك، لم يجز. ولو قال له: بعني الجبة بقطنها والأمة بجنينها لجاز ذلك. وأشار إلى ما قررناه من أن القصد التخاطر إذا عقدا البيع على أمر مغيّب كجنين الأمة وقطن الجبة. وإذا عقدا على الأمة نفسها والجبة بجملتها، صار المُغَتبُ من ذلك غير مقصود إلى التخاطر فيه، فجاز هذا العقد. وهكذا العقد على صبرة طعام عفي عن الغرر في العلم بمبلغها وسومح في الرجوع إلى الحزر والتخمين فيها لأجل أن العارفين بالحزر في هذا والتخمين يقل غلطهم فيه يكثر (١) مقدار ما بين غلطهم فيه إذا وقع الكيل، مع ما في ذلك من الارتفاق ورفع المشاق لتكلف الكيل وطلب المكيال، وهذا من طريق الاعتبار. وأمّا من جهة الآثار فقد خرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "كان الناس يبتاعون الطعام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزافًا (٢). وخرج عنه أيضًا: كانت الصحابة يبتاعون الثمار جزافًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (٢)، وهذا وإن وردت الآثار بالجواز فيه مطلقًا، وإباحة العلماء من غير تقييد، فإنه يجب أن يشترط في ذلك كون المتعاقدين ممن لهما دربة في هذا الحزر والتخمين وشاهدا منه ما يقيسان عليه ما يتبايعانه جزافًا.

وأما إن كان المتعاقدان بعيدين من معرفة هذا ويقعان في الغلط الفاحش فيه


(١) هكذا. ولعل الصواب: ولا يكثر.
(٢) نص حديث البخاري: لقد رأيت النّاس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتاعون جزافًا -يعني الطّعام. يضربون أن يبيعوه في مكانه حتى يؤووه إلى رحالهم. فتح الباري ج ٥ ص ٢٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>