للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الذين كانوا مجتهدين مستقلين يغترفون من نبع الشريعة، وَيَرِدُونَ مَوْرِدَهَا الصافي.

وسوف يقدم لنا هذا الباب كذلك جانبًا من مناظراتهم ومناقشاتهم، وبخاصة عند البخاري، مما يدل على رسوخهم في العلم وتمكنهم من الأخبار ومقدرتهم على المناظرة، مقدرة مكنت إسحاق بن راهويه من مناظرة الشافعي (١) - رَحِمَهُمَا اللهُ -.

وقد كان إسحاق شديدًا في مناظرة أهل الرأي، مولعًا ببيان تناقضهم مما نرى أثره في البخاري وابن حزم. ومن صور هذه المناقشة ما نجده في مسألة الوضوء من لحم الجزور. وإنه مستثنى من الرخصة في ترك الوضوء مما مسته النار حيث يقول: «وَالعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الذِينَ يُنْكِرُونَ الوُضُوءَ مِنْ لَحْمِ الجَزُورِ، ثُمَّ لَا يَرْضَوْنَ حَتَّى يَعِيبُوا الأَخْذَ بِهِ، وَهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ يَرَوْنَ الوُضُوءَ مِنَ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ صَاحِبَكَ ضَحِكَ نَهَارَهُ أَجْمَعَ، أَيَجِبُ عَلَيْهِ الوُضُوءُ؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيُقَالُ لَهُ: فَإِذَا ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَيَقُولُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الوُضُوءُ وَانْتَقَضَتْ الصَّلَاةُ»، ثم ذكر أن هذا الخصم لو سئل عن إنسان يسب آخر ويهجوه لما أوجب عليه


(١) وكانا قد التقيا في مكة وقد ذكر السبكي مناظرتين لهما. أولهما في كراء بيوت مكة. وقد تساهل الشافعي مع إسحاق في هذه المناظرة. «فَتَكَلَّمَ ابْنُ رَاهُوَيْهْ بِالفَارِسِيَّةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ عَدَمَ تَقْدِيرِهِ لِلْشَّافِعِيِّ»، ولما أدرك الشافعي ذلك: دعا إسحاق للمناظرة حتى أفحمه. أما المناظرة الثانية فقد كانت في دباغ جلود الميتة. فذهب الشافعي إلى أن الدباغ يطهرها بدليل مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: «هَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟». فقال إسحاق: «حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ (*): " كَتَبَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ [وَفَاتِهِ] بِشَهْرٍ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلاَ عَصَبٍ "، أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ». فقال الشافعي: «هَذَا كِتَابٌ، وَذَاكَ سَمَاعٌ». فقال إسحاق: «إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عِنْدَ اللَّهِ»، فسكت الشافعي. وقد ذكر السبكي أن سكوت الشافعي ليس انقطاعًا، بأدلة ذكرها (انظر " طبقات الشافعية ": ١/ ٢٣٦، ٢٣٧).

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) ورد في الكتاب المطبوع (ابن حكيم) والصواب (ابْنُ عُكَيْمٍ) والرواية التي ذكرها المؤلف في " مسند الإمام أحمد ". انظر " مسند الإمام أحمد "، تحقيق الشيخ أحمد شاكر وحمزة أحمد الزين، ١٩/ ٢٦٧، حديث رقم ١٨٦٨٦، الطبعة الأولى: ١٤١٦ هـ - ١٩٩٥ م، نشر دار الحديث - القاهرة.

<<  <   >  >>