للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (١). وما فَاتَ بَالإغْمَاء يَجِبُ قَضَاؤُه، سواء استغرق جَمِيعَ الشَّهْرِ، أو لم يستغرق، لأنه نَوْع مرض يَغْشَى العَقْلَ بخلاف المجنون، ولهذا يَجُوزُ الإِغْمَاء عَلَى الأنبياء عليه السلام ولا يجوزُ الجُنُون عَلَيْهم، ويخالف الصَّلاةَ حيث يُسْقِطُ الإغْمَاءُ قَضَاَءَهَا؛ لأن الصَّلاَة تَتَكَرَّرُ، والإِغْمَاء قد يَمْتَّدُّ وَيَتكَرَّر، فوجوب القَضَاء يَجْرُّ عُسْراً وَحَرَجاً، ونقل صاحب "التهذيب" و"التتمة" عن ابْنِ سُرَيْجٍ أن الإغْمَاء إذا استغرق أَسْقَطَ القَضَاءَ، ويجب على الحَائِضِ قَضَاءُ أَيَّام الحَيْضِ، كما مَرَّ في الحَيْضِ، ولا يجب الصَّوْمُ عَلَى الصَّبِي، والمَجْنُونَ، ولاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا، ولا فرق في إسْقاط الجُنُونِ، القضاءَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَغْرِقَ النَّهار، أو لا يستغرقه، ولا بَيْنَ أن يستغرق الشَّهر، أو لا يستغرقه. وقال مَالِكٌ: الجنُونُ لا يسقط القَضَاء كالإغماء، وهو إحدى الرِّوايتين عن أَحْمَد، فَلْيَكُنْ قَوْلُه (بجنون) مُعَلَّماً بالميم والألف وبالحاء أيضاً، لأن اللَّفظ يشمل ما إذا ترك بِالْجُنون جَمِيعَ أَيَّامِ الشَّهْرِ، وما إذَا تَرَكَ بَعْضَهَا.

وَعِندَ أبي حنيفة -رحمه الله- إذا أفاق المَجْنُونُ فهي أثِناء الشَّهْر، فعليه قضاءُ مَا مَضَى مِنَ الشَّهْرِ (٢).


(١) سورة البقرة، الآية ١٨٤.
(٢) والوجه فيه -أن المجنون لم يأت بالواجب عليه فيما مضى من الشهر، فوجب عليه القضاء قياساً على المغمى عليه. وإنما قلنا: ذلك -لأنه لم يأت بالصوم، وقد وجب عليه فيما مضى. وإنما قلنا: إنه وجب عليه فيما مضى- لأن عموم النص يتناوله، وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أي فرض. والمجنون موصوف بصفة الإيمان. وإذا ثبت أنه وجب عليه، وقد فاته لعدم الأهلية، يجب عليه القضاء إخراجاً له عن عهدة الواجب. فإن قيل: قولكم بأن الصوم وجب عليه. قلنا: لا نسلم. والدليل على عدم الوجوب أن تفسير الواجب أنه لو أتى به يثاب عليه ولو ترك يعاقب، وهذا منتف في حق المجنون. وأما الآية - قلنا: لا تتناول المجنون لأن شرط تناول الخطاب فهم الخطاب والقدرة على الفعل، ولم يوجد ذلك في حقه، بخلاف النائم والمغمى عليه/ لأنه وجد في حقهما دليل الفهم والقدرة وهو العقل، والحكم يدار على دليل الشرط لا على حقيقته، أما ههنا بخلافه، وصار كالمجنون المستوعب كل الشهر، فإنه لا يلزم القضاء مع وجود ما ذكرتم. الجواب: قوله: الواجب ما لو أتى به يثاب عليه ولو ترك يعاقب - قلنا: لا نسلم، بل الثواب بالفعل والعقاب بالترك حكم الوجوب، وحكم الشيء قد يتراخى عنه لمنافع. ثم نقول: الواجب عبارة عن فعل يقتضي إستحقاق الثواب بالإتيان به، واستحقاق العقاب بتركه. وهذا إشارة إلى أن الوجوب وجوبان: أصل الوجوب وهو ما ذكرنا، ووجوب الأداء وهو ما ذكرتم. ومثاله: الواجبات الموسعةْ فإنه لا يعاقب بتركها- كذا هذا. وأما قوله: شرط تناول الخطاب الفهم والقدرة. -قلنا: في الحال أم في الجملة؟ والفهم والقدرة موجودان في حق المجنون في الجملة، على تقدير الإفاقة، وذلك يكفي لتناول الخطاب، كما قلنا في النائم والمغمى عليه. قوله: وجد في حقهما دليل الفهم والقدرة، وهو العقل. قلنا: عنه جوابان:
أحدهما: أن المجنون عبارة عن استتار العقل لا عن عدم العقل فإن اللفظ ينبئ عنه لغة.

<<  <  ج: ص:  >  >>