للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وللثاني: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- رَمَلَ فِي طَوَافِ عمرِهِ كُلَّهَا (١) وَفِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الطَّوَافِ فِي الْحَجِّ".

والذي يشتركان فيه استعقاب السَّعْيِ فعلى القولين لا رَمَلَ في طَوَافِ الوَدَاعِ؛ لأنه ليس للقُدُوم، ولا يستعقب السعي، ويرمل من قدم مكَّة معتمراً؛ لوقوع طوافه عن القُدُومِ واستعقابه السعي، ويرمل أيضاً الأفاقي الحَاجّ إذا دَخَلَ مكة بعد الوقوف، وإن دخلها قبل الوُقوف فهل يَرْمُل في طَواف القُدومِ؟ ينظر إن كان لا يسعى عقيبه ويؤخره إلى إثر طواف الافاضة فعلى القول الأول يَرْمُل، وعلى الثاني لا، وإنما يرمل في طواف الإفاضة وإن كَانَ يَسْعَى عقيبه، فيرمل فيه على القوالين، وإذا رمل فيه وَسَعَى بعده بلا يرمل في طواف الإفاضة إن لم يُرِد السَّعْيَ عُقَيْبَه، وإن أراده فكذلك في أصحِّ القولين، وإذاطَافَ للقدوم وسعى بعده ولم يرمل فَهَلْ يَقْضِيهِ فِي طَوَافِ الإفَاضَةِ؟ فيه وجهان، ويقال: قولان:

أظهرهما: لا، كما لو ترك الرَّمَلَ في الثَّلاثةِ الأُولَى لا يقضيه في الأَرْبَعَةِ الأَخِيرَةِ، وإن طاف ورملَ ولم يسع فجواب الأكثرين: أنه يرمل في طَوَافِ الإفَاضَةِ هَاهُنَا؛ لبقاء السَّعْي عَلَيْهِ، وكون هيئة الرَّمل مع الاضطباع مرعية فيه، والسَّعْي تَبَعٌ للطواف، فلا يزيد في الهَيْئَةِ عَلَى الأَصْلِ. وهذا الجواب في غالب الظَّنِّ منهم مَبْنِيٌّ على القَوْلِ الثَّانِي، وإلا فلا اعتبار باستعقاب السَّعْي، وهل يرمل المكي المنشئ حَجَّه مِنْ مَكَّةَ فِي طوافه؟ إن قلنا: بالقول الأول فلاَ، إذْ لَيْسَ له طواف قدوم ودخول.

وإن قلنا: بالثاني فنعم؛ لاستعقابه السَّعْي.

الثالثة: لو ترك الرَّمَلَ فِي الأشواط الأولى لم يَقْضِهِ في الأخيرة؛ لأن الهينة والسكينة مسنونةٌ فيها استنان الرَّمَلِ في الأولى، فلو قضاه لَفَوَّتَ سنةً حَاضِرَةً، وهذا كما لو تَرَكَ الجَهْرَ في الركعتين الأولتين لا يقضيه في الآخرتين، ويخالف ما لو ترك سُورَة "الجُمُعَةِ" في الرَّكْعَةِ الأولى يَقْرَأُهَا مَعَ "المُنَافِقينَ" في الثانية؛ لأن الجمع ممكن هناك.

الرابعة: القرب من البيت مستحب للطائف تَبَرُّكاً بِهِ، ولا نظر إلى كَثْرَةِ الخُطَى لَوْ تَبَاعَدَ، فلو تَعَذَّرَ الرَّمَلُ مع القُرْب لِزَحْمَةِ النَّاسِ فينظر إن كان يَجِدُ فُرْجَة لو توقف توقف ليجدها فيرمل فيها، وإن كان لاَ يَرْجُو ذَلِكَ وهو المراد مما أطلقه في الكتاب فالبعد عن الميت والمحافظة على الرَّمَلِ أَوْلَى، لأن القُرْبَ فضيلةٌ تتعلق بموضع العِبَادة، والرمل فَضِيلَةٌ تتعلق بِنَفْسِ العِبَادَةِ، والفضيلة المتعلقة بِنَفْسِ العِبَادَةِ أولى بالرِّعَايَةِ، ألا ترى أن الصَّلاةَ بالجَمَاعَةِ في البَيْتِ أَفْضَلُ من الانفراد بِهَا فِي المَسْجِدِ.


(١) أخرجه أبو داود في المصدر السابق، والنسائي أيضاً، والحاكم في المصدر السابق.

<<  <  ج: ص:  >  >>