للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ الغَزَالِيُّ: السَّادِسُ الْحِمَى لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ البَقِيعُ وَلِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الأَئِمَةِ كَالتَّحَجُّرِ في المَنْعِ مِنَ الإِحْيَاءِ، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُ أن يَحْمِيَ لِنَفْسِهِ وَكَانَ ذَلِكَ خَاصَّةً لَهُ، وَيَجُوزُ (و) أَنْ يَحْمِيَ لإبِلِ الصَّدَقَةِ أَعْنِي لِلأِئمَّةِ، وَفِي نَقْصِ الْحِمَى بَعْدَ زَوَالِ الحَاجَةِ خِلاَفٌ (و)، قِيلَ: إِنَّهُ لاَ يُغَيِّرُ كَالمَسْجِدِ، وَقِيلَ: نَعَمْ لأَنَّهُ بُنيَ عَلَى مَصْلَحَةٍ حَالِيَّةٍ.

قالَ الرَّافِعِيُّ: المرادُ من الحَمى أنه يَحْمِيَ بقعةً من المواتِ لمواشٍ بَعينْها، ويَمْنَعَ سائرَ الناس عن الرَّعْي فيها، وكان يجوزُ ذلك لرسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لخاصة نفْسه، ولكنَّه لم يَفْعَلْ، وإنَّما حَمَى النقيعَ (١) لإبِلِ الصَدقةِ، وَنَعَمِ الجزية، وخَيْلِ المجاهدين في سبيل الله تعالَى (٢).

وأمَّا غَيْرُ رسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فالآحاد لا يَحْمُونه أصْلاً، وليْسَ للأئمة الْحمَى لنفسِهم، وكأنَّ ذلكَ من خواصِّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حمَاهُمْ لمصالح المسْلِمِين قولان:

أحدُهُما: المنعُ أيضاً؛ لما رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ حِمَى إلاَّ لله وَلرَسُولِهِ" (٣).

وأصحُّهما: الجوازُ، وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ؛ لأنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه- حَمَى، واستعمل على الحِمَى مولىً له يُقالُ له: هُنَيِ. وقال: "يَا هُنَي، اضْمُمْ جَنَاحَكَ لِلْمُسْلِمِينَ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ، وأَدْخِلْ ربَّ الصُّرَيْمَةُ وَالغَنِيمَةِ، وَإِيَّاكِ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكُ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وِإِنَّ ربَّ الصَّرِيمَةِ وَالغَنِيمَةِ، إنْ يَهْلِكِ مَاشِيَتُهُمَا يأتي بِعِيَالِهِ، فيَقُولُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لاَ أَبَا لَكَ، فَالمَاءَ وَالكَلأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَب وَالْوَرِقِ، وَأَيْمُ اللهِ، لَوْلاَ المَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا حَمَيْتُ عن المُسْلِمِيَنَ من بِلاَدِهِم شِبْراً (٤) وأَيْضَاً فللحاجة الداعية.

وعن صاحِب "التقريب" القَطْعُ بالقول الثاني، والحديثُ محمولٌ على المَنْع من أن يَحْمِيَ لنفسه عَلَى ما كان يفعله العزيز من العربِ كان، إذا انتجع بقعةً محصنةً، استقْوَى كلباً عَلَى جبلٍ أو نشز، ووَقَف له من يَسْمَع صوته، فإلَى حيث انتهى صوتُه حماه لنفسِهِ منْ كلِّ جانب، ورعَى فيما سواه مع النَّاس، وإذا جوَّزنا، فذلك للإمام الأعظَمِ خاصَّة، أو يجوزُ لِوُلاَتِهِ في النواحي أيضاً؟ فيه وجهان رواهما القاضي ابْنُ كجٍّ وغيرُه.

أظْهَرْهُمَا: الثاني، ولا فرْق بين أنْ يحمي لخيل المجاهدين أو نعَم الجزية


(١) قال النووي: النقيع بالنون عند الجمهور، وهو الصواب. وقيل بالباء الموحدة وبقيع الغرقد بالباء قطعاً.
(٢) تقدم في أواخر باب محرمات الإحرام وقال الحافظ في التلخيص: وفيه إدراجاً.
(٣) تقدم.
(٤) أخرجه البخاري رقم (٣٠٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>