للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحَبْسُ زجْر وتأديبٌ فإن اقتضى الحال أن نَمْنَع مِنْه زوجته أو أمته، فعل، ولو أراد مستحِقُّ الدَّيْن أن يلازمه بدلاً عن الحبس، مُكِّنَ، فإن الملازمة أخفّ، إلا أن يقول للقاضي: إنه يشق عليَّ الطهارةُ والصلاةُ بسَبَبِ الملازمة، فامْنَعْه منها، واحبسني، فيردُّه إلى الحَبْس، قاله أبو العباس: وقدم الخلاف في أن الأب، هل يُحْبَسُ بدَيْنِ ولده؟ وقياس حبسه، أن يُحْبَسَ المريض والمخدرة وابن السبيل، منعًا لهم من الظُّلْم؛ والحكاية عن أبي عاصم العباديِّ أن هؤلاء لا يُحْبَسُونَ، ولكن يوكَّلُ بهم ليحيلوا أو يؤدُّوا.

قال: ولا يُحْبَسُ الأبُ في حقِّ الصغير، ولا القَيِّم، ولا الوكيل، في دَيْنٍ لم يجب بمعاملتهم. ويُحبَس الأمناءُ في دَيْنٍ وجب بمعاملتهم، ولا يحبس الصبيُّ والمجنونُ ولا المكاتَبُ بالنُّجُوم، ولا يُحْبَسُ العَبْدُ الجانِي، ولا سيِّدُه ليؤدي، أو يبيع بل يُبَاع عليه، إذا وجد راغب، وامتنع، ونقل القاضي أبو سعد الهرويُّ وجهين في حبس كل غريمٍ، قَدَرْنا على ماله وتمكَنَّا من بَيْعِهِ، وأجرة السجان على المحْبُوس، وأجرة الموكّل على مَنْ وكل به، إذا لم يكن في بَيْتِ المالِ مالٌ، وانصرف إلى جهةٍ أهمَّ من هذه والله أعلم.

قَالَ الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي فِي مُسْتَنَدِ قَضَائِهِ: وإِنَّمَا يَقْضِي بِالحُجَّةِ، وَلا يَقْضِي بِعَلْمِهِ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، لَكِنْ إِنْ عَلِمَ فَسْقَ الشَّاهِدِ أَوْ كَذِبَةٌ تَوَقَّفَ عَنِ القَضَاءِ، وَيُغْنِيهِ عُلمُهُ بَعَدَالَةِ الشُّهُودِ عَنِ المُزَكِّينِ، وَيَقْضِي عَلَى مَنْ أقَرَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ دُونَ مَنْ أَقَرَّ عِنْدَهُ سِرًّا، وَلا يَكْفِي شَاهِدٌ واحِدٌ مَعَ عِلْمِهِ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود هذا الفصل: الكلام في أن القاضي، بم يقضي؟ وَإلام يستند قضاؤه؟ أما أنه يقضي بالحُجَّة فواضحٌ، ولو لم يقُمْ عنده حجة، إلاَّ أنه عَلِمَ صدق المدعي، فهل يقضي بعلمه؟ فيه قولان:

أحدهما: لا، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- لما رُويَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في قضية الملاعنة: "لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجُمْتُهَا" (١) ولأن فيه تهمةً، والتهمة تمنع القضاء، ولذلك لا يقضي لولده ووالده.

والثاني: نعم، وبه قال المزنيُّ -رحمه الله- لأنه يقضي بشهادة الشاهدين، والحاصل مجرَّدُ ظنٍّ، فلأَن يقضي باليقين كان أولى، وبه قال الشافعيُّ -رضي الله عنه- في "كتاب الرسالة": صح عندي، وثبت لَدَيَّ، وهو أقوى من شاهدين، ورجح في الكتاب القول الأول، واختاره القاضي الروياني: لفساد القضاة، وحكاه عن ابن سريج،


(١) أخرجه مسلم من حديث ابن عباس، وفيه قصة.

<<  <  ج: ص:  >  >>