للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُوِيَ عن ابن عَبَّاس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ رَجُلاً بعدما حَلَفَ بالخروج من حَقِّ صَاحِبِهِ (١)، كأنه عَرَفَ أنَّه كاذبٌ، فَدَلَّ أن اليمين، لا تُوجِبُ البَرَاءَةَ.

فلو أقام المُدَّعِي بَيِّنَة بعدما حلف المُدَّعَى عليه، سُمِعَتْ، وقُضِيَ بها. وكذا لو رُدَّتِ اليمين على المُدَّعِي، ونَكَلَ، ثم أقام بَيِّنَةً.

وهذا إذا لم يتعرض وقت التحليف للبَيِّنَةِ، وإن كان قد قال حينئذ: لا بَيِّنَة لي حَاضِرَةٌ، ولا غائبة، فهذه الصُّورَةُ قد ذكرنا في شرح الفصل الثَّانِي من الباب الثاني من "أدب القضاء"، مَضْمُومَة إلى الصورة التي أَوْرَدَهَا هناك، وهي أن يقول: لا بَيّنَةَ، واقتصر عليه. وفيهما جَمِيعُ الخلاف. والأَظْهَرُ السماع أيضاً، وَبَيَّنَّا هناك أنَّه لو قال: لا بَيِّنَةَ لي حَاضِرَةٌ، ثم جاء ببينة سمعت فَلَعَلَّهَا حضرت.

وأنه لو قال: لي بَيِّنَةٌ، ولكن لا أُقِيمُهَا، وأريد يمينه، يُجِيبُهُ القاضي إليه، ويحلفه. هذا هو المَشْهُورُ. وفي فتاوى القَفَّالِ: أنَّه لا يَجِبُ على القاضي تَحْلِيفُهُ، بل يقول: أَحْضِرِ البَيِّنةَ. هذه إحدى مسألتي الفصل.

والثانية: لو أن مُدَّعِياً أقام على ما يَدَّعِيهِ شُهُوداً، ثم قال: كَذَبَ شُهُودِي، أو شَهِدُوا مبطلين، فلا شَكَّ في سقوط بَيِّنَتِهِ، وامتناع الحكم.

وفي بُطلاَنِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ عن صاحب "التقريب": تبطل، وينزل تَكْذِيبُهُ الشُّهُودَ مَنزِلَةَ تكذيبه نَفْسَهُ، وليس له أن يُقيمَ بعد ذلك بَيِّنَةً أخرى.

وأظهرهما: المَنْعُ، لاحتمال أن يكون هو مُحِقّاً في دَعْوَاهُ، والشهود مبطلين؛ لِشَهَادَتِهِمْ بما لا يحيطون به عِلْماً، وفي مثل ذلك يقول الله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ


(١) أخرجه أحمد [١/ ٢٩٦ - ٣٢٢] والنسائي والحاكم [٤/ ٩٥ - ٩٦] من حديث عطاء بن السائب عن أبي يحيى الأعرج، عن ابن عباس قال: جاء رجلان يختصمان في شيء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال للمدعي: أقم البينة، فلم يقمها، فقال للآخر: احلف، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: بلى قد فعلت، ولكن غفر لك بإخلاص قول لا إله إلا الله، وفي رواية الحكم فقال: بل هو عندك، ادفع إليه حقه، ثم قال: شهادتك أن لا إله إلا الله كفارة يمينك، وفي رواية أحمد: فنزل جبرئيل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنه كاذب، إن له عنده حقه، فأمره أن يعطيه وكفارة يمينه معرفة لا إله إلا الله، وأعله ابن حزم بأبي يحيى، قال: وهو مصدع المعقب، وكذا قال ابن عساكر: إنه مصدع، وتعقبه المزي بأنه وهم، قال: بل اسمه زياد، كذا سماه أحمد والبخاري وأبو داود [٣٢٧٥] في هذا الحديث، وأعلم أبو حاتم برواية شعبة عن عطاء بن السائب عن البختري بن عبيد، عن ابن الزبير مختصراً: أن رجلاً حلف بالله كاذباً فغفر له، قال: وشعبة أقدم سماعاً من غيره، وفي الباب عن أنس من طريق الحارث بن عبيد عن ثابت عنه، قال أبو حاتم: ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن ابن عمر، قلت: أخرجهما البيهقي [١٠/ ١٨٠] والحارث بن عبيد هو أبو قدامة. قاله الحافظ في التلخيص.

<<  <  ج: ص:  >  >>