للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وسواء صرح الأصوليون بهذا المعنى أو لم يصرحوا: فلابد من توضيحه، إذ إنه بهذا الوصف هو مورد الخلاف.

وإذا كان الأصوليون لم يصرحوا بهذا المعنى فلا مناص إذن من تتبع الأمثلة التي يذكرونها حتى يتضح ذلك المعنى، وبالنظر في الأمثلة التي ذكرها الجويني والغزالي والشاطبي وابن القيم يظهر لي أنهم اشترطوا تلك الشروط في المصلحة - والتي الأصل فيها الإباحة - لكي يجوز اعتبارها إذا كان ذلك الاعتبار سيؤدي إلى التعدي على أصل ثابت أو حق مقرر، وهذا يكون في الغالب في الإلزام العام (١).

فالذين لاحظوا معنى المصلحة هنا قضوا بأن ذلك جائز، والذين لاحظوا ما سيؤدي إليه اعتبار تلك المصلحة على هذا النحو ذهبوا إلى المنع، وكلا


(١) وقد ذكر ابن القيم في الطرق الحكمية في السياسة الشرعية (ص ٢٧ - ٣٢) عددًا من أفعال الصحابة لا وجه لها إلا هذا القول، وهي ترجح هذا المعنى الذي ذهبت إليه، فمن ذلك: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حرّق حانوت الخمار بما فيه، وحرّق قرية يباع فيها الخمر، وحلق رأس نصر بن حجاج، ونفاه من المدينة لتشبيب النساء به، وضرب صبيغ بن عسل التميمي على رأسه لما سأل عما لا يعنيه، وألزم الصحابة - رضي الله عنهم - أن يُقِلُّوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما اشتغلوا به عن القرآن، ونقل عن ابن تيمية أنه يرى أن من ذلك إلزام المطلق ثلاثًا بكلمة واحدة بالطلاق ثلاثًا، ومنه منع عمر - رضي الله عنه - بيع أمهات الأولاد رغم أنهن كن يبعن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذه الأمثلة كلها لا يستقيم تأصيل لما فعله عمر - رضي الله عنه - إلا بالقول بأن المصلحة المرسلة لا تكون إلا في الإلزام العام، وهو لا يكون إلا في السياسة الشرعية [انظر الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، تحقيق: حازم القاضي، نشر مكتبة نزار مصطفى الباز، ط. الثانية (١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م)].