للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

٤ - وثبت أيضًا أنه لم يصنف أو يدون شيئًا كبيرًا في الأصول، ولا في الفقه، مع أنه في عصر ازدهر فيه التأليف، ودونت فيه العلوم، وأسست فيه المذاهب، وجل ما ألف في مذهبه، إنما هو من عمل أصحابه الذين جاؤوا من بعده.

فهذه الأمور، وما ماثلها قد تكون هي التي دعت الطبري -رَحِمَهُ اللهُ- وغيره إلى اعتبار أحمد محدثًا وليس فقيهًا.

ونحن هنا نورد من الأدلة الواقعية ما يثبت أنه من أعظم الفقهاء، ومن أقواهم في الإستنباط والإجتهاد، وأن مذهبه ليس بعيدًا عن الإجتهاد، خلافاً لما ظن ابن خلدون -رَحِمَهُ اللهُ- (١).

وقلة أتباع المذهب ليس مقياسًا في كون المذهب قريبًا من الإجتهاد أو بعيدًا عنه. فانتشار المذاهب وكثرة أتباعها لهما أسباب وظروف ودواعٍ كثيرةٌ غير ذلك.

وفيما يلي بيان أن النقط السابقة ليست داعية إلى اعتبار اللإمام أحمد محدثًا وليس فقيهًا، كما توهم بعضهم، وفيه أدلة واقعية وتاريخية على إثبات فقه اللإمام أحمد وحسن استنباطه:

١ - لا يُماري أحد في تفوق اللإمام أحمد في الحديث، ونزعته الشديدة للأثر والتمسك به، ولكن ذلك لم يكن سببًا في كونه غير فقيه، فإن الحديث هو أصل الفقه. وتوفر النصوص وأقوال السلف لدى اللإمام أحمد أغناه عن القول في كثير من المسائل بالرأي المجرد، وتطرق الخطأ إلى الرأي المجرد أكثر وأقوى من تطرقه إلى المنقول، وكم من سلف الأمة وعلمائها منذ عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جعل الحديث أصل فتواه، ومع ذلك يُعد من أعظم الفقهاء، واللإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ- ممن اعتمد على النصوص واللآثار واهتم بها، وبنى فقهه عليها.

والأمة كلها متفقة على أن خير مناهج القرون في الإستنباط هو منهاج صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان، وهو من الأسس التي بنى أحمد عليها مذهبه. والرجوع إلى أصل الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، والإعتصام بذلك آمن مزلة من


(١) فقد قال في "المقدمة" (٢/ ٥٤٤، الطبعة التونسية ١٩٨٤): فأما أحمد بن حنبل فمقلدوه قليل لبعد مذهبه عن الإجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض.