للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واصطلح المتأخرون من فقهاء المذاهب على أن كلمه "مذهب أحمد" مثلًا إذا أطلقت، فلا يقصد بها دائمًا ما ذهب إليه الإمام نفسه، بل ما استقر عليه القول وجرت به الفتوى، سواء أكان هو قول الإمام نفسه، أم كان قولًا لأصحابه، أم كان قولًا مخرجًا معتمدًا، فيقولون: المذهب في المسألة كذا، ويقصدون هذا المعنى، من باب إطلاق الشيء على جزئه الأهم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة" (١)، وذلك لأن الأهم عند الفقيه المقلد هو ما به الفتوى دون غيره (٢).

والمذهب بهذا المعنى الأخير لم يكن معروفًا في زمن الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة، فمالك والشافعي وغيرهما لم يكونوا يعرفون معنى المذاهب، وإنما كانوا ينشرون علم السنة، وفقه الصحابة والتابعين، ولذا قيل: إن نسبة المذهب إلى صاحبه لا يخلو من تسامح.

ثم تطورت دلالة هذه الكلمة حتى استقرت على مدلول كبير ومضمون واسع وأصبح إطلاق كلمة "المذهب الحنبلي" مثلًا في الأزمنة المتأخرة إلى يومنا هذا يعني ذلك المجموع المتكامل، والبنيان المتراصف المشيد من فقه وأصول وقواعد وضوابط وفروق واصطلاحات، تولدت وترتبت وهذبت، عبر مدة زمنية غير قليلة، وجهود كوكبة متلاحقة من العلماء، بنى اللاحق فيها على ما انتهى إليه السابق، منذ أن كان المذهب في طي تلك المسائل والفتاوي المتفرقة، والإجتهادات المنثورة في التصانِيف الأولى والأسمعة التي دونها الأصحاب رحمة الله أجمعين.

* * *

ثانيًا - نشأة المذاهب الفقهية وسببها:

من المعلوم أن المذاهب الفقهية لم تكن معروفة في زمن الصحابة ولا التابعين، على أن بعض الصحابة تفردوا بالمشيخة ليبعض فقهاء التابعين، فقد ذكر السخاوي


(١) أخرجه أحمد (١٨٧٧٤)، وأصحابه السنن: أبو داود (١٩٤٩) والترمذي (٨٨٩)، والنسائي ٥/ ٢٦٤، وابن ماجة (٣٠١٥) من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي.
(٢) محاضرات في تاريخ المذهب المالكي د. عمر بن عبد الكريم الجيدي، ص ٧، ط. المغرب.