للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد واجه المذهب الحنبلي في انتشاره في ديار الإسلام صعوبة بسبب تأخره في الزمان، وذلك أن الناس قد استقروا على المذاهب التي انتهت إليهم، ودرجوا على تلك المذاهب في شأن الفتوى والقضاء والتعلم والتعليم والتصنيف وغير ذلك.

وعلى الرغم من تلك العوائق، فإن هذا المذهب لم ينقرض، كما انقرضت بعض المذاهب مع مطلع القرن الخامس للهجرة، بل كتب له الإستمرار في مسقط رأسه وموطن نشأته: دار السلام، فبقي هناك يدرّس ويعلّم، ويتلقاه اللاحق عن السابق إلى عهود متأخرة، كما انتشر هنا وهناك في الأقطار الإسلامية، كحرآن، والشام، ومصر، والجزيرة العريية، وملأ سجلات التاريخ الإسلامي برجاله وآثاره، فما من فن من الفنون إلا وللحنابلة فيه مشاركة عالية ويد بيضاء سابغة.

وفي المراحل الأولى من هذا الدور ازدهر المذهب الحنبلي ازدهارًا شاملًا، وتكامل تكاملًا نسبيًا، وتدريجيًا، وذلك بالأعمال العلمية التالية:

أولاً: ضبط القواعد العامة في نقل المسائل المروية عن الإمام أحمد وأصحابه، ومن ثَمَّ تبين ما هو منصوص، وما ليس منصوصًا، وما هو منصوص: هل فيه رواية واحدة أو أكثر؟ وهل الروايات المتعددة مختلفة أو متفقة؟ وهكذا.

ثانياً: نشاط المجتهدين في المذهب بتخريج الفروع على الأصول، وبناء غير المنصوص على المنصوص.

ثالثا: نشاط المجتهدين في الترجيح بين الروايات، والوجوه، والإحتمالات، وتولدت من جراء ذلك عدة اصطلاحات فنية استخدامية.

وهذا النوع من النشاط الإجتهادي امتد حتى عصور متأخرة، وكثرت عليه التعقبات والتصحيحات، حتى أواخر القرن التاسع تقريباً، وكان خاتمتهم في ذلك العلامة علاء الدين المرداوي (٨٨٥ هـ). الذي وصفه العليمي بقوله: "شيخ المذهب وإمامه ومصححه ومنقحه" (١).


(١) المنهج الأحمد ٥/ ٢٩٠.