للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالحنابلة إن قل عددهم بالنظر إلى غيرهم، فقد بورك في تلك القلة، حتى انتشر علمها، وكثر المستفيد منها، ونهل من معينها الصافي القريب والبعيد، وصارت بذلك كثرة في المعنى، كما قال القائل (١):

يقولون لي: قد قل مذهب أحمدٍ ... وكلُّ قليل في الأنام ضئيلُ

فقلت لهم: مهلًا غلطتم بزعمكم ... ألم تعلموا أن الكرام قليلُ

وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليلُ

على أن أبا الوفاء ابن عقيل (٥١٣ هـ) البغدادي رد سبب هذه القلة إلى ميل

الأصحاب إلى التزهد والإنقطاع إلى العبادة، فقال في ذلك:

"هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه، لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع واحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات. فكانت الولاية لتدريسه واشتغاله بالعلم. فأما أصحاب أحمد، فإنه قل فيهم من تعلق بطرف من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد، لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم" (٢).

ولكلن هذا الحكم من ابن عقيل ليس عامًا، بل هو وصف لأصحابه البغدايين فقط، فقد تقلد الحنابلة في الشام ومصر مناصب القضاء، وإدارة المدارس، وشؤون الفتوى، بل عمل بعضهم في الوزارة كابن هبيرة (٥٦٠ هـ) والسفارة كأبي محمد التميمي (٤٨٨ هـ).

وانتشار المذهب بعد القرن الرابع خارج بغداد يدل على قوته، وتلقي الناس له

بالرضا والقبول، وترجيحه على غيره عند كثير من العلماء (٣).


(١) ذكر هذه الأبيات الشيخ أبو زهرة (ابن حنبل: ص ٤٣١) ولم ينسبها لأحد. وفيها معارضة للامية السمَوْال ابن عاديا، والتي مطلعها:
إذا المرء لم يدنَس من اللُّؤم عرضُه ... فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ
(٢) ذيل طبقات الحنابلة، لإبن رجب الحنبلي، ١/ ١٥٧.
(٣) ينظر في ذلك الباب الثامن والتسعين من"المناقب" لإبن الجوزي، فقد عقده بعنوان: سبب اختيارنا لمذهب أحمد على مذهب غيره. ومقدمة كتاب "المدخل" لإبن بدران، وكذلك "العقد الثاني" منه.