للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والمذهب الحنبلي، وإن انتشر خارج بغداد خلال هذا الدور واشتد ساعده بعد ذلك في الشام ومصر والجزيرة العربية، إلا أن الفضل في ذلك إنما يرجع إلى ما بذله البغداديون من الجهود والأعمال، وذلك كما قال القائل (١):

نقِّل فؤادك حيثُ شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ

فقد كان علماء العراق مثابة للطلاب من الأنحاء المختلفة، إليهم تضرب أكباد اللإبل في الأغوار والأنجاد، فكانوا هم السبب في تصدير المذهب إلى بلدان مختلفة.

وقد ضرب الحنابلة في بغداد أروع الأمثال في الصبر والثبات، والأمر بالمعروف والنهي عن النكر، ومواجهة البدع، والدفاع عن السنة ومذهب السلف (٢).

وقد التزم الحنابلة القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بغداد أيما التزام، فقد كانوا يأخذون على أيدي العصاة والفساق، ويداهمون دور الفساد، ويقيمون الحسبة على الناس في أسواقهم، وبيعهم وشرائهم، ويمنعون اختلاط الرجال بالنساء، والخلوة المحرمة بين الجنسين، حتى سجلوا في ذلك مقامات وقصصًا مشهورة، دونها الأخباريون والمؤرخون في سجلاتهم. قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢٣ هـ:

"وفيها عظم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون من دور القواد والعامة، وإن وجدوا نبيذًا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها، وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء، ومشي الرجال مع النساء والصبيان، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه: من هو؟ فأخبرهم، وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة، وشهدوا عليه بالفاحشة، فأرهجوا بغداد" (٣).


(١) هو أبو تمام، والييت في "ديوانه" ٤/ ٣٥٣.
(٢) ينظر على سبيل المثال ما ورد في ترجمة الشريف أبي جعفر (٤٧٠ هـ) وما كان بينه ويين ابن القشيري من الوقائع في "طبقات الحنابلة" ٢/ ٢٣٩، و"ذيل الطبقات"، لإبن رجب، ١/ ١٥ - ١٦.
(٣) الكامل في التاريخ، ٨/ ٣٠٧، دار صادر، بيروت، ١٩٦٦.