للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومنهجي في استنباط الأحكام، وكان رائدها إذ ذاك إبراهيم النخعي -رَحِمَهُ اللهُ-، وظهرت مدرسة الحديث بالحجاز، وكان حامل اللواء فيها هو سعيد بن المسيَّب.

والواقع أن الحجاز لم تكن فيها مدرسة ولا رائد، وإنما تميز الحجازيون بأنهم أهل حديث وأثر، كما تميز العراقيون باستعمال القياس وكثرة التفريع الفقهي , وقد كان صغار التابعين ومن بعدهم في الشام ومصر واليمن على سنن الحجازيين , كما أن فقهاء الأمصار استعملوا القياس، كما استعمله الصحابة، وكان ربيعة بن عبد الرحمن يسكن المدينة، وهو شيخ مالك ابن أنس في الفقه، ومع ذلك كان يتعاطى الرأي حتى لقب بـ "رييعة الرأي"، كما كان الشعبي وابن سيرين من أعلام محدثي العراق وعلمائهم، ولم يكونا معروفين بالرأي.

فالحقيقة أن النزاع قام بين بعض الحجازيين والعراقيين بسبب أن معظم العلم انحصر في الحجاز والعراق، وكان قد دخل في طور الإنتساب إلى البلدان كما قلنا، فحصل ما يشبه تحاسد الأقران وتنازعهم على الفضائل، فكان علماء الحجاز يرون أنهم قد اجتمعت لهم السنة، وأن الإسناد الصحيح الثابث لا يزال متوارثًا فيهم، فأصح الأسانيد عندهم: الزهري عن سالم عن أبيه، ومالك عن نافع عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وأن الحديث إذا جاوز الحرّتين انقطع نخاعه.

وكان علماء العراق يرون أنهم هم الآخرون قد استغنوا بما حمل إليهم الصحابة الأولون من العلم، وخصوصًا عبد الله بن مسعود، وكان جادة الإسناد إليه: منصور عن إبراهيم عن علقمة عنه - رضي الله عنه -. ولكن لما قلّت بضاعتهم بالنظر إلى بضاعة الحجازين فتحوا باب الرأي والقياس ليسدوا الفراغ، ويحكموا في تلك الفروع الكثيرة التي خاضوا فيها.

إلى جانب ذلك فقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وامتزجت الثقافات فيها، وتفرق الفقهاء في الأمصار، وكثرت الرحلات والفتاوى والوقائع، وشاع الجدل والمناظرات في المجالس، وأخذ التدوين، بمعنى التصنيف، يشق طريقه في صفوف العلماء، كما كثرت الترجمة لعلوم الأوائل، وتجرد كثير من الموالي وانتدبوا يتفقهون ويتعلمون حتى صاروا أئمة الناس وازدهر الفقه بهم ازدهارًا عظيمًا (١).

كل هذه العوامل تسببت في وجود علماء تميزوا بجمع الفقه، وكثرة الحفظ والتألق في الإجتهاد على ضوء ما انتهى إليهم من شيوخهم، وبذلك صاروا فيما بعد أئمة لمذاهب فقهية تعرف بأسمائهم بصورة تلقائية.


(١) المدخل للفقه الإسلامي، محمد سلام مدكور، ص ٨٥ - ٨٩.