للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المبحث الثالث

المذهب في بلاد الشام

تعتبر الشام -وقلبها النابض دمشق- رائدة للحضارة الإسلامية، ومعقلًا للعلم، ومثابة للعلماء منذ فجر التاريخ الإسلامي الذي بزغ بفتح الصحابة لها واستيطان كثير منهم فيها، ثم اتخذها خلفاء بني أمية عاصمة للخلافة ومركزًا لإدارة شؤون الدولة الإسلامية. وورثت حضارة الرومان البائدة فهذبتها بتهذيب الإسلام وحضارته السائدة، فصنعت هناك الأمجاد، وارتفع صرح العلوم والمعارف عاليًا خفاقًا، فأخذت الرحلات من طلاب العلم تشق طرقها إلى ذلك المعقل الزاخر من كل مشرق ومغرب.

وكان العلم في بلاد الشام في القرون الأولى والأزمنة التقدمة يُتلقى عن طريق حلقات المساجد وفي بيوت العلماء، وكان لمسجد بني أمية أثر فعال في هذا المضمار من أول يوم. ثم إنه تحول بعد أريعة قرون أو خمسة إلى مؤسسات علمية مستقلة، فبنيت دور لتحفيظ القرآن الكريم وتلقينه، ودور لرواية الحديث الشريف وسماعه، ودور مشتركة بين هذا وذاك. كما أنشئت مدارس لتعليم الفقه ونشره بمختلف مذاهبه، فعرفت دمشق عددًا من المدارس للشافعية وأخرى للحنفية وأخرى للمالكية ورابعة للحنابلة.

وأوقفت الأوقاف لبناء تلك الدور والمدارس وتعميرها، والنفقة على تسييرها، وعلى من يقوم عليها من الشيوخ والنظار ومن يؤمُّها من الطلاب (١). ومن تلك


(١) يعتبر العلامة عبد القادر النعيمي الدمشقي (٩٢٧ هـ) صاحب الفضل في السبق إلى تدوين أسماء تلك الدور والمدارس وتجريدها، بالإضافة إلى إحصاء مدارس الطب والخوانق والتكايا والزوايا والربط والمساجد منذ القرن الخامس حتى القرن العاشر للهجرة، وذلك في كتابه الشهير (الدارس في تاريخ المدارس)، فكان ذلك الكتاب شاهدًا حيًا ومرآة جلية تعكس المستوى الثقافي على مدى خمسة قرون.
ثم جاء الشيخ عبد القادر ابن بدران الدوماني الدمشقي فألف كتابه المعروف بـ "منادمة الأطلال ومسامرة الخيال" فعمل ما عمل النعيمي، وأضاف الدارس والمعاهد العلمية التي أنشئت بعد القرن العاشر، ونبه على ما بقي من تلك الآثار المجيدة إلى اليوم.
كما يعتبر كتاب "القلائد الجوهرية" لإبن طولون الدمشقي الصالحي معلمة أخرى بما كشف من مدارس الصالحية ومكباتها ومساجدها وآثارها العلمية والخيرية المجيدة.