للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالمجتهد إذا كان حاكماً فهو يفتي باجتهاده، ويحكم باجتهاده، فالإخباران صادران عن اجتهاد، إلا أن الفرق بين الحالتين، هو أنه في الفتيا يخبر عن مقتضى الدليل الراجح عنده، فهو كالمترجم عن الله تعالى فيما وجده في الأدلة، كترجمان الحاكم يخبر الناس بما يجده في كلام الحاكم أو خطه، وهو في الحكم يُنشئ إلزاماً أو إطلاقاً للمحكوم عليه بحسب ما يظهر له من الدليل الراجح والسبب الواقع في تلك القضية الواقعة (١).

ويعتبر منصب الفتوى منصباً كبيراً في الإسلام، باعتبار أنه منصب التوقيع عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في بيان أحكامه للناس، فمن لم يكن أهلاً لذلك وإن غاشًا للناس في الدين، مفترياً على الله ورسوله، فيكون مَنْ هذه حاله واقفاً على شفير جهنم.

ففي سنن أبي داود (٢) من حديث مسلم بن يسار، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أُفْتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه".

وقال الخطيب البغدادي: "ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها، أو وعده بالعقولة إن لم ينته عنها، وقد كان الخلفاء من بني أميَّة ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قومًا يُعَيِّنونهم، ويأمرون بأن لا يستفتى غيرهم" (٣).

ولهذا لم يزل العلماء يؤلفون الكتب والرسائل والأبحاث في بيان عظم شأن الفتوى، وما هي الشروط المطلوية فيمن تصدى للفتوى، وماهي الآداب التي ينبغي أن يلتزم بها.

وقد بُلي عصرنا الحاضر برؤوس جهال، وأئمة مضلين يفتون بغير علم، ويتسارعون في الفتوى، على عكس ما كان عليه سلفنا الأبرار، إذ أنهم كانوا يتدافعون الفتوى حتى تعود إلى اللأول.


(١) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، ص ٨٤.
(٢) في كتاب العلم، باب: التوقي في الفتيا، الحديث (٣٦٥٧).
(٣) الفقيه والمتفقه ٢/ ١٥٤.