للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تعليق على رسائل المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم:

يرى الشيخ محمد أبو زهرة -رَحِمَهُ اللهُ- أن تلك الرسائل كانت من صنيع أحمد بن أبي داود، وزير المأمون وكاتبه، وصاحب السلطان في دولته، وأنه كتبها مستغلًا وضعية المأمون الصحية التي كانت تنذر بدنو أجله، ورجح أن المأمون لم يطلع عليها عند إرسالها، ووقعها من دون معرفة مضمونها، أو قد عرف مضمونها، ولكنه كان في حال ضعف لا يملك معه السيطرة الكافية على الأمور. واستدل على ذلك بالقرائن التالية:

١ - الإسهاب الموجود في تلك الرسائل، وهو يتنافى مع المعهود من مكاتبات الملوك.

٢ - ورد ذكر الخليفة بصيغة الغائب، مما يدل على أن الذي كتب وعبر هو غيره.

٣ - النزول إلى السفاسف التي تأنف عنها سيرة المأمون وسائر الملوك والخلفاء، وذلك بالطعن واللإسفاف بأولئك العلماء الذين سجلت أسماؤهم في تلك المكاتبات.

٤ - أن ذلك كان في آخر حياة المأمون، وقي وقت كان فيه بعيدًا عن بغداد ومشغولًا بجهاد الروم (١).

لكن هذا الذي رجحه الشيخ أبو زهرة إذا عرضناه على جوانب أخرى من وقائع تلك المكاتبات فإننا نجده غير مسلّم له. وذلك للأمور التالية:

١ - إن الكتاب الأول الذي أرسله، إنما أرسله من الرقة، وأرّخه بتاريخ: ربيع الأول من سنة ٢١٨ هـ (٢). وكان المأمون في ذلك الوقت قريبًا من بغداد، وفي كامل صحته.

٢ - إن المأمون مرض بسبب وعكة أصابته فجأة، وهو على ساحل طرسوس في شهر جمادى الآخرة ٢١٨ هـ فلما اشتد به المرض، وظن أنه سوف يلقى ربه عما قريب كتب وصاياه إلى عماله، وفيها عهد إلى المعتصم أخيه بالخلافة (٣).

فكيف يكون المأمون مغلولًا حتى يقدِّم ابنُ أبي دواد بين يديه؟ ثم كيف لا يكون عالمًا بتلك الرسائل ومحتوياتها، وقد تكررت عدة موات، وفيها الأجولة على تنفيذات إسحاق ابن إبراهيم، وكتابة ما قام به من الأعمال، بل وفيها الأمر بإشخاص الرجال المذكورين وإرسالهم إليه في معسكره ليمتحنهم بنفسه!!

إذن، فلنا أن نسلم بأن الكتابة كانت بيد ابن أبي دواد، ولكن لا نسلم أنه هو الذي صنع كل شيء وأنفذه، والمأمون لا يملك زمام الأمور. والله أعلم.


(١) ابن حنبل، ص ٩٤ - ٩٦.
(٢) المناقب، ص ٣٨٧، وتاريخ الطبري ٨/ ٦٣١، ٦٣٤.
(٣) تاريخ الطبري ٨/ ٦٤٥ وما بعدها.