للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأما الأول وهو الموادعة في الظاهر فهي الكف عن القتال وترك التعرض للنفوس والأموال، فجيب عليهم للمسلمين مثل ما يجب لهم على المسلمين، فيستويان غيه، ولا يتفاضلان، ويجب عليهم أن يكفوا عن أمل ذمة المسلمين، ولا يجب على المسلمين أن يكفوا عن أهل ذمتهم إلا أن يدخلوها في عقد مهادنتهم، فيختلفان في الذمتين، وإن تساويا في الموادعتين، فإن عدلوا عن الموادعة إلى ضدها، فقاتلوا قومًا من المسلمين أو قتلوا قومًا من المسلمين أو أخذوا مال قوم من المسلمين انتقضت هدنتهم بفعلهم، ولم يفتقر إلى حكم الإمام لنقضها. وجاز أن يبدأ بقتالهم من غير إنذار ويشن عليهم الغارة، ويهجم عليهم غرة وبياتًا، وجرى ذلك في نقض الهدنة مجرى تصريحهم بالقول إنهم قد نقضوا الهدنة.

وأما الثاني: وهو ترك الخيانة، فهو أن لا يستسروا بفعل ما ينقض الهدنة لو أظهروه مثل أن يمايلوه في السر عدوًا أو يقتلوا في السر مسلمًا أو يأخذوا له مالًا أو يزنوا بمسلمة وهذا مما يستوي الفريقان في التزامه، فإن خانوا بذلك حكم الإمام تنتقض هدنتهم، ولم تنتقض بمجرد خيانتهم، ويكونوا على الهدنة، ما لم يحكم الإمام بنقضها لقول الله تعالى: {وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:٥٨].

وقد نقض رسول الله صلى الله عليه وسلم هدنة قريش بما أسروه من معونة بني بكر على خزاعة، ويجوز أن يبدأ بقتالهم مجاهرة ولا يشن عليهم الغارة والبيات في الابتداء، ويفعل ذلك في الانتهاء، فصار هذا القسم مخالفًا للقسم الأول من وجهين:

أحدهما: أن الهدنة تنتقض في القسم الأول بالفعل، وتنتقض في هذا القسم بالحكم.

والثاني: أنه يجوز أن يبتدأ في الأول بشن البيات والغارة، ويجب أن يبدأ في هذا بقتال المجاهرة.

وإذا خاف خيانة أهل الهدنة جاز أن ينقض هدنتهم، ولو خاف خيانة أهل الذمة لم يجز أن ينقض بها ذمتهم.

والفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أن النظر في عقد الهدنة لنا، والنظر في عقد الذمة لهم، ولذلك وجب علينا إجابة أهل الذمة إذا سألوها، ولم يجب علينا إجابة أهل الهدنة إذا سألوها.

والثاني: أن أهل الذمة تحت القدرة يمكن استدراك خيانتهم، وأهل الهدنة، خارجون عن القدرة لا يمكن استدراك خيانتهم.

والثالث: وهو المجاملة في الأقوال والأفعال، فهي في حقوق المسلمين أغلظ منها في حقوقهم، فيلزمهم في حقوق المسلمين عليهم أن يكفوا عن القبيح من القول والفعل، ويبذلوا لهم الجميل في القول والفعل، ولهم على المسلمين أن يكفوا عن القبيح في القول

<<  <  ج: ص:  >  >>