للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم جاء الشرع السماوي فحرم هذه الأفعال، ونص على العفو عنها، فقال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (٢٢)} [النساء: ٢٢]، وأكد هذا العفو رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الإسلام يَجُبُّ ما قبله" (١)، ومثله ما كان شائعًا في أول الإسلام ولم يحرم، واستمر المسلمون على فعله، ثم نص الشرع على تحريمه، كالخمر وتعدد الزوجات فوق الأربع وبعض بيوع الجاهلية وغيرها مما حرمته الشريعة، فكانت قبل التحريم مباحة لا يعاقب فاعلها.

وهذا القسم يعتبر من المباح تبعًا لا أصالة.

واعتبر بعض الفقهاء هذا القسم مرتبة مستقلة عن الأحكام الخمسة، وأنها مرتبة بين الحلال والحرام، لأن المباح هو ما تساوى طرفاه في النفع والضرر، وهذا القسم ثبت ضرره أكثر من نفعه قطعًا لتحريم الشارع له، ولكن اللَّه تعالى عفا عنه، ولم يعذب صاحبه كشارب الخمر مثلًا، واستدل الفقهاء على قولهم بما ورد من النصوص التي تدل على هذه المرتبة المستقلة مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم، لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها" (٢)، ومثل قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٣]، وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: ٩٥]، وما ثبت من العفو عن الخطأ والنسيان والاستكراه، وأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم بناء على البراءة الأصلية، والأمثلة كثيرة على الأمور المعفو عنها، كالرخص أيضًا، والترجيح بين الدليلين عند


(١) رواه ابن سعد عن الزبير وجبير بن مطعم.
(٢) رواه الحاكم عن أبي ثعلبة. والبيهقي (١٠/ ١٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>