للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا شفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق، بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحًا لحاله، مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب، فهكذا شرعت الحدود، وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها فإنه متى كان قصده صلاح الرعية، والنهى عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم، وابتغى بذلك وجه اللَّه تعالى وطاعة أمره، ألان اللَّه له القلوب، وتيسرت له أسباب الخير، وكفاه العقوبة البشرية، وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد، وأما إذا كان غرضه العلو عليهم، وإقامة رياسته ليعظموه، أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده" (١).

والحدود إنما سميت بذلك لأنها تمنع من ارتكاب الفواحش، وتحفظ الضرورات الخمس (٢)، قال ابن القيم رحمه اللَّه: "فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه، المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع" (٣)، ليس هذا فحسب بل إن الحدود كفارة للجاني، قال الشاطبي رحمه اللَّه: "إن المصلحة ليست الازدجار فقط، بل ثم أمر آخر، وهو كونها كفارة؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، وإن كانت زجرًا أيضا على إيقاع


(١) الفتاوى، ٢٨/ ٣٢٩.
(٢) انظر: إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين، أبي بكر ابن السيد محمد شطا الدمياطي، دار الفكر: بيروت، ط ١، د. ت، ٤/ ١٤٢، والمبدع، إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي، المكتب الإسلامي: بيروت، ط ١، ١٤٠٠ هـ، ٩/ ٤٣.
(٣) إعلام الموقعين، ٢/ ١١٤.

<<  <   >  >>