للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"يُختار أهون الشرين"، وقاعدة: "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف" (١)، ولا شك أن


(١) انظر: درر الحكام، ١/ ٣٧، وشرح القواعد الفقهية، ١/ ١٩٩، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "وهذا ثابت في سائر الأمور فإن الطبيب مثلًا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض والفساد أداة تزيدهما معًا، فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافًا للمرض، وعند ضعف القوة فعله؛ لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولى من إذهابهما جميعًا، فإن ذهاب القوة مستلزمة للهلاك، ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة، وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم، لكن عدمه أشد ضررًا عليهم، ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان. . . إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعة كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدًا وقدرة جازت له الولاية، وربما وجبت؛ وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء وإقامة الحدود وأمن السبيل كان فعلها واجبا، فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل، وإعطاء بعض من لا ينبغي ولا يمكنه ترك ذلك، صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به، فيكون واجبًا أو مستحبًا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب، بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره، كان ذلك حسنًا مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدًا، وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد. . . ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارًا. . . ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين اللَّه، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. . . فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها كما بينته فيما تقدم العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلًا لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها؛ دفعًا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبًا إلى ذي سلطان ظالم، فيعتدى عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررًا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركًا =

<<  <   >  >>