للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من النّكال، ثم بلغ من سعة جوده ورحمته أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها، وطُهْرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة؛ فرحمهم بهذه العقوبات أنواعًا من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قتْل، وقطْع، وجلْد، ونفْي، وتغريم مال، وتعزير (١).

[[القتل وموجبه]]

فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات، كالجناية على الأنفس؛ فكانت عقوبته من جنسه (٢)، وكالجناية على الدِّين بالطعن فيه والارتداد عنه، وهذه الجناية أولى بالقتل وكَفِّ عدوان الجاني [عليه] (٣) من كل عقوبة؛ إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم، ولا خير يُرجى (٤) في بقائِه ولا مصلحة؛ فإذا حَبسَ شَرَّه [وأمسكَ] (٥) لسانَه وكفَّ أذاه والتزم الذُّلَّ والصغار وجريان أحكام اللَّه ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضررٌ عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين، وجعله أيضًا عقوبة الجناية، على الفروج المحرمة؛ لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام (٦).

[[القطع وموجبه]]

وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلًا، وعقوبة السارق؛ فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد، ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل؛ فكانت (٧) أليقَ العقوباتِ به إبانةُ العضو الذي جعله وسيلةً إلى أذى الناس، وأَخْذِ أموالهم، ولما كان ضررُ المُحاربِ أشدَّ من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضَمّ إلى قطع يده قطع رجله؛ ليكف عدوانه، وشر يده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى (٨) بها، وشرع أن يكون ذلك من خلاف لئلا يُفوِّت عليه منفعة الشق بكماله، فكف ضرره وعدوانه، ورحمه بأن أبقى له يدًا من شق ورجلًا من شق (٩).


(١) بدل: "وتعزير" في (ن): "وتغريب".
(٢) انظر: "الفوائد" (ص ٨٠).
(٣) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(٤) في (ق) و (ن): "ولا خيرة ترجى".
(٥) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(٦) في (ق) و (ك): "والفساد العظيم".
(٧) في (د): "فكان".
(٨) في (د) و (و): "بطش بها ورجله التي سعى".
(٩) انظر الحكمة في العقوبة بالقطع في السرقة والقصاص، لابن القيم -أيضًا- في "بدائع =

<<  <  ج: ص:  >  >>