للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يليق بها غير ذلك؛ فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر (١) عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقّاه (٢) على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به، ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخُلَطاءَ يكثر (٣) فيهم بَغي بعضهم على بعض شرع اللَّه سبحانه رفع هذا الضرر: بالقسمة تارة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك؛ فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي، وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان؛ فكان الشريك أحقّ بدفع العوض من الأجنبي، فيزول (٤) عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفِطر ومصالح العباد، ومن هنا يعلم أن التحيّل لإسقاط الشفعة مناقضٌ لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له.

ثم اختلفت أفهام العلماء في الضرر الذي قصد الشارع رفعه بالشفعة.

فقالت طائفة: هو الضَّررُ اللاحق بالقسمة؛ لأن كل واحد من الشريكين إذا طالب شريكه بالقسمة كان عليه في ذلك من الكلفة والمؤنة والغرامة والضيق في مرافق المنزل ما هو معلوم؛ فإنه قبل القسمة ربما ارتفق بالدار والأرض كلها وبأي موضع شاء منها، فإذا وقعت الحدود ضاقت به الدار وقصر على موضع منها، وفي ذلك من الضرر عليه ما لا خفاء به، فمكَّنه الشارع بحكمته ورحمته من رفع هذه المضرة عن نفسه؛ بأن يكون أحق بالمبيع من الأجنبي الذي يريد الدخول عليه، وحرم الشارع على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يُؤذنَ شريكه، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به، وإن أذن في البيع وقال: لا غرض لي فيه لم يكن له الطلب بعد البيع؛ هذا مُقتضى حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (٥)، ولا معارض له بوجه، وهو الصواب المقطوع به، وهذه طريقة من يرى أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة.

وقالت طائفة أخرى: إنما شُرعت الشفعة لرفع الضرر اللاحق بالشركة؛ فإذا كانا شريكين في عين من الأعيان بإرثٍ أو هبةٍ أو وصيةٍ أو ابتياع أو نحو ذلك لم يكن رفع ضرر أحدهما بأولى من رفع ضرر الآخر؛ فإذا باع نصيبه كان شريكه


(١) في (ن): "نفي الضرر".
(٢) في (ك): "بقاؤه".
(٣) في (ك) و (ق): "كثير".
(٤) في (د): "ويزول".
(٥) سيأتي قريبًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>