للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واحد من الأُمَّة بعينه، وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول؟ وهل هذا إلا نسبة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أنه أَمَر بما لم يأمر به قط؟!.

يوضحه الوجه الرابع والثلاثون: أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم، فإن اللَّه سبحانه أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر اللَّه نساء نبيه أن يذكرنه بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: ٣٤] فهذا هو الذكر الذي أمرنا اللَّه باتِّباعه، وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله، وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزله على رسوله ليخبروه به، فإذا أخبروه به لم يسعه غيرَ أتباعه، وهذا كان شأنُ أئمةِ أهل العلم لم يكن لهم مُقلَّد معين يتبعونه في كل ما قال؛ فكان عبد اللَّه بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو فَعَله أو سَنَّة، لا يسألهم عن غير ذلك (١)، وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصًا عائشة (٢) عن فعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيته، وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيهم فقط، وكذلك أئمة الفقه كما قال الشافعي لأحمد: يا أبا عبد اللَّه، أنت أعلم بالحديث مني؛ فإذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شاميًا كان أو كوفيًا أو بصريًا (٣)، ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده ويخالف ما سواه (٤).

الوجه الخامس والثلاثون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما أرشد المستفتين (٥) لصاحب الشّجَّة بالسؤال عن حكمه وسنته، فقال: "قَتَلوه قَتلَهم اللَّه" (٦) فدعا عليهم لما أفْتَوا بغير علم، وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد، فإنه ليس عِلْمًا باتفاق الناس فإن ما دعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على فاعِلِه فهو حرامٌ، وذلك أحد أدلة التحريم؛ فما احتجَّ به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم واللَّه الموفق، وكذلك سؤال أبي العسيف (٧) الذي زَنَى بامرأةِ مستأجرِه لأهل العلم؛ فإنهم لمَّا أخبروه بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في البكر الزاني أقرَّه على ذلك ولم ينكره؛ فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم.


(١) مضى تخريجه.
(٢) مضى تخريجه.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي ومناقبه" (٩٤ - ٩٥)، والبيهقي في "مناقب الشافعي" (١/ ٤٧٩)، و"المدخل" (١٧٣، ١٧٤)، وأبو نعيم في "الحلية" (٩/ ١٠٦، ١٧٠)، وابن عبد البر في "الانتقاء" (ص ٧٥).
(٤) في المطبوع: "ويخالف له ما سواه".
(٥) في (ن) و (ك): "المفتين".
(٦) سبق تخريجه.
(٧) مضى تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>