للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر، فإن من ردَّ الحق مَرجَ عليه أمره واختلط عليه والتبس عليه وجه الصواب فلم يدر أين يذهب، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: ٥].

[أمر عمر شريحًا بتقديم الكتاب ثم السنة]

الوجه الثاني والخمسون: قولكم: إن عمر كتب إلى شُريح: "أنِ أقضِ بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فبما في سنة رسول اللَّه، فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه فبما قضى به الصالحون" (١) فهذا من أظهر الحجج [عليكم] (٢) على بطلان التقليد؛ فإنه أَمَره أن يُقدِّم الحكم بالكتاب على كل ما سواه، فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى غيرها، فإن لم يجده في السنة قضى [بمثل ما] (٣) قضى به الصحابة، ونحن نناشد اللَّه فرقة التقليد: هل هم كذلك أو قريبًا من ذلك؟ وهل إذا نزلت بهم نازلة حدّث أحدٌ منهم نَفْسَه أن يأخذ حكمها من كتاب اللَّه ثم ينفذه، فإن لم يجدها في كتاب اللَّه أخذها من سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم يجدها في السنة أفتى فيها بما أفتى به الصحابة؟ واللَّه يشهدُ عليهم وملائكتُه وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلَّدوه، وإن استبانَ لهم في الكتاب أو السنة أو عن الصحابة (٤) خلافُ ذلك لم يلتفتوا إليه، ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه؛ فكتاب عمر من أبطل الأشياء وأكسرها لقولهم، وهذا كان سير السلف المستقيم وهديهم القويم.

[[طريق المتأخرين في أخذ الأحكام]]

فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا (٥) عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولًا: هل فيها اختلاف أم لا؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا [في] (٦) سنة، بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع (٧)، وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به (٣)


(١) سبق تخريجه.
(٢) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(٣) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "بما".
(٤) في المطبوع: "أو أقوال الصحابة".
(٥) في (ق): "سارعوا".
(٦) ما بين المعقوفتين زيادة من المطبوع.
(٧) انظر بحث ابن القيم -رحمه اللَّه- حول الإجماع في "كتاب الصلاة" (ص ٥١ - ٥٢)، و"حادي الأرواح" (ص ٢٨٨)؛ فإنه مهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>