للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحكم به، وهذا خلاف ما دَلَّ عليه حديث معاذ وكتاب عمر (١) وأقوال الصحابة. والذي دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدورٌ مأمور، فإن عِلْمَ المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهلُ عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحُكْم؛ وهذا إن لم يكن متعذرًا فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام، فكيف يُحيلنا اللَّه ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللَّذين هدانا بهما، ويسَّرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقًا سهلة التناول من قرب؟ ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علمًا بعدمه، فكيف يقدِّم عدم العلم على أصل العلم كله؟ ثم كيف يسوغُ له ترك الحق المعلوم إلى أمر (٢) لا علم له به وغايته أن يكون موهومًا، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًا فيه شكًا متساويًا أو راجحًا؟ ثم كيف يستقيم على هذا (٣) رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع (٤) فما لم ينقرض عصرهم فلِمَن نشأ في زمنهم أن يخالِفَهم، فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج بالإِجماع حتى يعلَم أن العصرَ انقرض ولم ينشأ فيه مخالفٌ لأهله؟ وهل أحالَ اللَّه الأمة في الاهتداء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه ولا اطّلاع لأفرادهم عليه؟ وترك إحالَتَهم على ما هو بين أظهرهم حجة [عليهم] (٥) باقية إلى آخر الدهر مُتَمكِّنون من الاهتداء به ومعرفة الحق منه، وهذا من أمحل المحال، وحين نشأت هذه الطريقة توَّلد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتَح بابُ دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتُج عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلافُ الإجماع. وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية على مَنْ ارتكبه، وكذَّبوا من ادّعاه؛ فقال الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- في رواية ابنه عبد اللَّه: من


(١) سبق تخريجهما مطولًا.
(٢) في (ك): "مراد".
(٣) في المطبوع: "كيف يستقيم هذا على".
(٤) انظر هذا المبحث في: "التمهيد" (٣/ ٣٤٦)، و"شرح الكوكب المنير" (٢/ ٢٤٦)، و"المسودة" (٣٢٠)، و"العدة" (٤/ ١٩٠٥)، و"البرهان" (١/ ٦٩٣)، و"البحر المحيط" (٤/ ٥١٤)، و"أصول السرخسي" (١/ ٣١٥)، و"الإحكام" (١/ ٢٣١) للآمدي، و"المستصفى" (١/ ١٩٢).
(٥) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

<<  <  ج: ص:  >  >>