للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسلمين لم يكن عمل بعضهم حجة على بعض، وإنما الحجة اتّباع السنة، ولا تُترك السنة لكون عَمَل بعض المسلمين على خلافها أو عَمِل بها غيرُهم، ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها لتُرِكَت السنن وصارت تبعًا لغيرها، فإن عَمِل بها ذلك الغير عُمِل بها وإلّا فلا، والسنة هي العيار على العمل، وليس العمل عيارًا على السنة، ولم تضمن لنا العصمة قط في عمل مصر من الأمصار دون سائرها، والجدران والمساكن والبقاع لا تأثير لها في ترجيح الأقوال، وإنما التأثير لأهلها وسكانها، ومعلوم أن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وظفروا من العلم بما لم يظفر به من بعدهم، فهم المُقدَّمون في العلم على من سواهم، كما هم المقدّمون في الفضل والدين، وعملهم هو العمل الذي لا يُخالف، وقد انتقل أكثرهم عن المدينة، وتفرّقوا في الأمصار، بل أكثر علمائهم صاروا إلى الكوفة والبصرة والشام مثل عليّ بن أبي طالب (١)، وأبي موسى، وعبد اللَّه بن مسعود، وعُبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، وانتقل إلى الكوفة والبصرة نحو ثلاث مئة صحابي ونيَّف، وإلى الشام ومصر نحوهم، فكيف يكون عمل هؤلاء معتبرًا ما داموا في المدينة، فإذا خالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرًا، فإذا فارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر، ولم يكن خلاف مَنْ (٢) انتقل عنها معتبرًا؟! هذا من الممتنع، وليس جعل عمل الباقين معتبرًا أَوْلى من جعل عمل المفارقين معتبرًا، فإن الوحي قد انقطع بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يبق إلّا كتاب اللَّه وسنة رسوله، فمن كانت السنة معه فعمله هو العمل المعتبر حقًا، ثم كيف (٣) تُترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم؟.

ثم يقال: أرأيتم لو استمرّ عمل أهل مصر من الأمصار التي انتقل إليها الصحابة على ما أدّاه إليهم مَنْ صار إليهم من الصحابة، ما الفرق بينه وبين عمل


= للغزالي، و"المحصول" (٤/ ١٦٢ - ١٦٩)، و"الإحكام" للآمدي (٣٠٢ - ٣٠٥)، و"الإحكام" (٤/ ٢٠٤ - ٢١٨) لابن حزم، (ومنه نقل المصنف كثيرًا من الأمثلة الآتية)، و"روضة الناظر" (ص ١٢٦)، و"الرسالة" (٥٣٣ - ٥٣٥)، و"المسودة" (ص ٣٣١ - ٣٣٣)، و"إرشاد الفحول" (ص ٨٢) للشوكاني، ورسالة الدكتور أحمد محمد نور سيف "عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين".
(١) بعده في المطبوع: "كرّم اللَّه وجهه".
(٢) في المطبوع: "ما".
(٣) في المطبوع: "فكيف".

<<  <  ج: ص:  >  >>